حسن المطروشي –
ليست مبالغة أن نقول إن ما يكتبه الشاعر في مجمله يشكل سيرة حياته ويجسد منعطفات عمره وتحولاته وحالاته، حزنا ونشوة وقلقا وفوضى وحضورا وغيابا وحبا ونفيا وحنينا، ولكن يعمد بعض الشعراء إلى كتابة ما يمكن أن نسميه (قصيدة السيرة) التي يختزل الشاعر فيها حياته في تجلياتها الواسعة.
هذه القصيدة يريد أن يقول الشاعر من خلالها كلمته بإيجاز بليغ ويعبر عن مواقفه ورؤاه وربما فلسفته في الوجود والكتابة والعالم من حوله، في حين يتفنن الروائيون وكتاب الفنون السردية في استعراض تجاربهم الحياتية عبر كتاب كامل، يذهب الشاعر إلى قول ذلك كله في قصيدة واحدة ربما لا تتجاوز ثلاث كلمات، مثل قصيدة قاسم حداد (سيرة الألف المألوف/ محاولة ثالثة):
بدأت وحيدا
ولم أزل”
الشاعر محمد القيسي ابن كفر عانة الفلسطينية الذي طرد من وطنه مثل الملايين من أبناء الشعب الفلسطيني المشرد في مخيمات اللاجئين وفي مدن العالم بلا هوية ولا وطن، القيسي صاحب قصيدة (كفر عانة البعيدة) يكتب سيرته في قصيدة بعنوان (سيرة المنفى)، لقد كانت حياة محمد القيسي كفلسطيني منفى كبيرا حتى آخر لحظة من وجوده على هذه الأرض، وقد كان هذا الملمح الأبرز في شعر القيسي، وهو ما أكدته الدراسات التي تناولت تجربته الشعرية مثل كتاب: (محمد القيسي .. قيثارة المنفى وتباريح الشجن: دراسة في شعره ونثره) للدكتور إبراهيم خليل، وكتاب (شعرية الاغتراب: دراسة في شعر محمد القيسي) لعمر العامري، وكتاب (المغني الجوال) لمحمد العامري، وغيرها من البحوث والمقالات والدراسات التي تناولت تجربة محمد القيسي.
يقول القيسي في قصيدته (سيرة المنفى):
على مهل أسلسل سيرة المنفى
وأجمع حاجياتي من بيوت الريح،
روحي من كوابيس الملال،
وياسمين السور
أطرح نافل التينِ.
على مهل أسلسل غامضي في الناي
أذهب كي أرى وجهي
وأترك للحرير يعيد تكويني”
وقريبا من تجربة محمد القيسي تأتي تجربة الشاعر يوسف عبد العزيز الذي ولد في بيت عنان بالقرب من القدس بفلسطين التي هاجر منها إثر اندلاع الحرب عام 1967م التي تعرف باسم نكسة حزيران، ليستقر به الحال في الأردن.
ليوسف عبد العزيز قصيدتان تحملان العنوان ذاته (سيرة ذاتية)، إحداهما في ديوانه الشهير (ذئب الأربعين) والأخرى في ديوانه (دفتر التجوال والإقامة)، في ديوان (ذئب الأربعين) يلتفت يوسف عبدالعزيز إلى الوراء بنظرة الحكيم الذي خاض غمار الحياة وسبر أغوارها قائلا:
حَفنَةُ تبنٍ أيّامي، قالَ الشّاعرُ
وحياتي تلهثُ خلفي كالكلبَة
مرتبكاً، ووحيداً كان يقلب أوراق الماضي
فيرى:
خمس نساء هرمات
في الإرشيف،
حقل زجاجات يترجرج فيها الهذيا
وسلة أخطاء.
كان العمر الوغد يمر كشحاذ
معتمر فوق الرأس حذاء”
وفي طقس جنوني سيريالي تتصاعد أحداث هذه القصيدة التي يختصر يوسف عبدالعزيز فيها حياة الشاعر بأسرها، “يحاول أن يكتب شيئا” يغمض عينيه، فتحدث أشياء فنتازية في غرفته التي تمثل في فراغها حياة الشاعر، فيصرخ متسائلا:
ما جدوى ذلك؟
قال الشاعر،
ورمى من نافذة الغرفة قلبه!
وفي ديوان (دفتر التجوال والإقامة)، يروي يوسف عبدالعزيز سيرته الذاتية بشيء من الحنين إلى الوطن السليب الذي تركه مكرها تحت نير الاحتلال الصهيوني الذي اغتصب أرضه ومنازل طفولته ليترك بيته ويعيش على قيد الحنين والأمل وانتظار بريد الأغاني قادما من حيفا والجليل والقدس ويافا ورام الله.
يقول يوسف عبدالعزيز:
قهوتي مرة، وثيابي قليلةْ
والصباح الذي يدخل الباب مرتبكا،
لا يرد السلامْ
منذ أن أرْخت القبرات جدائلها
منذ أن صهل البحر في جسدي، قلت:
إن بريد الأغاني وصلْ
ومناديل حيفا على الشرفات
المساءْ .. دفترا .. دفترا يشتعلْ
القصائد تغسل قلبي،
وأزهار نافذتي لا تنام.
أما الشاعر عبدالوهاب البياتي في قصيدته (سيرة ذاتية لسارق النار) فيستعرض حياته بكل خيباتها وعنفوانها وكبريائها عبر استحضار أسطورة الإله بروميثيوس، يتحدث عن سيرة سارق النار، الذي لن يكون سوى الشاعر نفسه، يلقاه حينا في المطارات فيبكيان معا، ويراه في المنافي والغربات، يتصدى سارق النار لإيقاد الشعلة المقدسة في عتمة العالم، فيجابهه العالم بالخذلان والمضي غرقا في الظلمة، ولكن على خلاف بروميثيوس يبدو سارق النار هنا مترفعا شامخا نائيا بنفسه عن الواقع البئيس للبشر، ولكن قدره أن يحمل شعلته ويقاوم جبروت الظلام.
يقول البياتي في جانب من القصيدة:
كان سارق النار مع الفصول يأتي
حاملا وصية الأزمنة ــ الأنهار،
يأتي رائيا:
يهمس في سباق خيل البشر الفانين
في توهج الأرض التي حل بها ــ
بالرجل الشمس، وبالقيثارة المرأة ِ
حُرَّين من الأغلالِ،
يستبصر أمواج التواريخ وأحزان سلالات
الطيور ــ الحجر ــ الموتى،
على بردية يكتب أسماء أميرات “بخارى”
حاملا ً وصية البحر إلى الطفولة ــ المساجد ــ الأسواق.
يشن عبدالوهاب البياتي في قصيدته (سيرة ذاتية لسارق النار) حربا شعواء على اللغة الصلعاء والشعر المتلكلس الذي يجمعه الشعراء من مزابل الشعر البادئة والدارسة، ويهجو شعراء المديح الواقفين على أبواب الخلفاء طمعا في العطايا والمغانم.
وفي قصيدة أخرى بعنوان (سارق النار) يؤكد البياتي أن هذا السارق إنما هو الشاعر ذاته الذي ناضل من أجل مبادئه ودخل السجون وحمل مصباحه لينير ظلام العالم، ولكنه رجع في نهاية المطاف محبطا خاسرا مخذولا:
وسارق النارِ لم يبرح كعادته
يسابق الريح من حان إلى حان
ولم تزل لعنةُ الآباء تتبعه
وتحجب الأرض عن مصباحه القاني
إلى أن قال:
عصر البطولات قد ولى وها أنذا
أعود من عالم الموتى بخذلان
وحدي احترقت، أنا وحدي، وكم عبرت
بي الشموس ولم تحفل بأحزاني
الشاعر الإنجليزي لويس ماكنيس يكتب أيضا قصيدة بعنوان (سيرة ذاتية).
لويس ماكنيس شاعر مسكون بقلق الحياة وأسئلة الوجود الحارقة.
يقول فاضل السلطاني في كتاب (خمسون عاما من الشعر البريطاني: 1950 – 2000) الذي قام هو بترجمته والتقديم له: “وما يميز ماكنيس هو إحساسه المأساوي بالحياة الذي يتخلل قصائده، والذي ينتقل إلينا عبر إيقاع سريع حار تنصهر فيه الأفكار، فلا نعد نحس بوجودها، إنها تتحول إلى أكبر قدر من الانفعال، فتنجح في إصابتنا بالعدوى”:
في طفولتي كانت الأشجار خضراء
وكنت أرى الكثير.
عد مبكرا أو لا تعد أبداً.
أبي جعل الحيطان ترتج ولبس ياقته بالمقلوب.
عد مبكرا أو لا تعد أبداً”.
ثم يذكر ماكنيس أمه التي لبست ثوبا أصفر برقّة، وينتقل فجأة إلى الخامسة من عمره حيث داهمته الأحلام السوداء ولم يعد بعدها أي شيء مثلما كان، إذ كان الظلام يتحدث مع الموتى والمصباح الأسود جنب السرير، ليستيقظ في نهاية المطاف ولا يجد أحدا بجانبه، وكأن الحياة غفوة سريعة خاطفة، سرعان ما ينتبه منها الشخص ليستفيق على الخواء الكبير ولا ثمة من يأبه بمسيره وحيدا تحت الشمس:
استيقظت، رأتني الشمس الباردة
أسير وحيدا.
عد مبكرا أو لا تعد أبداً”.
وأخيرا نتوقف في تجوالنا في فضاء قصيدة السيرة مع قصيدة الشاعر اليمني محمد حسين هيثم (سيرة ذاتية) التي جزأها إلى ثلاثة مشاهد، ربما أرادها أن تكون أضلاع التجربة الحياتية وهي (فصل الفراشة) و(حاشية السؤال) و(أبْيَن).
في المشهد الأول يستعيد محمد حسين هيثم سيرة الفتى النزق المنطلق في براي الحياة بحيوية وقوة، يدفعه التوق والشغف والمغامرة وعشق الاكتشاف ونزوعه للهو واللذة، ثم ينكشف النص عن خدعة الحياة التي غادرته في لمحة خاطفة، وتركته يقف كالظمآن خاسرا كل رهاناته وأسراره:
ساورتك النساء ولم ترتوِ
وما عدت طفل البراري
وسر الغزالة والانهمار
وما عاد من دورة الجلنار
سوى حفنة من بياض
وبعض خطى الخاتمة
ومن اللذة ينتقل في المشهد الثاني إلى السؤال، وهو العنصر الذي يشترك فيه كل المفكرين والفلاسفة، لقد كانت أسئلة الوجود دائما مثار اهتمام الإنسان المفكر المسكون بهواجس الذات والغيب والحياة والفناء.
في هذا المشهد من القصيدة نرى ذات الشاعر تواجه هذا الانشطار الرهيب حيث تغدو ذاتين منفصلتين غريبتين عن بعضهما ويسأل أحدهما الآخر:
من أنت؟
ألفت بيني وبين الزمان
من أنت؟
منتهك الروح منتبذا ومهان
من أنت؟
لم تكن ساحليا كما تشتهي وردتي
لم تكن رازقيا تقطر من كرمة العنفوان
من أنت؟
وفي الشهد الثالث والأخير من القصيدة يتوقف الشاعر عند (أبْيَن)، المحافظة الينمية ذات التاريخ العريق والتضاريس البديعة ببحارها وشواطئها وحقولها الخضراء، وكذلك إنسانها الذي عاصر الأزمنة والحروب والنكبات وصنع الانتصارات.
إن ثمة مفارقة عجائبية يرصدها الشاعر في أبين، فهي رغم كل شيء تنتصر للحياة والحب والجمال، وتكذّب خرافة القبح والبؤس والبشاعة والموت، وتذهب بعيدا في نزوعها العميق:
ليس ثمة ما يجعل الحجارة امتثالات غير عادية
غير أن أبين لا تصدق
غير أن أبين تؤلف الجوقة الخارقة
وتدون في ورق الموز الباسل
هديل الأبينيات
مطر اليدين على الشواهد
امتثالات الحجارة غير العادية
غير أن أبين……….
هذه هي طريقة الشعر في التعبير، وهكذا يسرد الشاعر حياة بأسرها في نص قصير مقتضب، يسكب فيه تفاصيل عمر كامل، بكل ما فيه من نزوع ونوازع، وعثرات وخيبات وانكسارات وانتصارات ولذائذ ورغبات وأسئلة، نص صغير مشفّر وغامض وحزين، هذه هي سيرة الشاعر.