إلهام السيابية
(( بقيا على موعد الزيارة ربع ساعة ))
تأملت هدى اوجه الحضور في غرفة الانتظار.. ربما ليس لها نصيب لرؤية اعز صديقاتها . .الكل يريد أن يدخل ..اما هدى فجلست بجانب زوجها وقد أطبق الصمت على شفتيها وتسرب الحزن إلى مآقي عينيها التى بدأت باللمعان وأطبق النحيب مخالبه يخنق أنفاسها، وكانت ترتجف بقوة ولم تستطع السيطرة على نفسها، فأخذت تستغفر الله وتلهج بالدعاء لأجل رفيقتها في درب الحياة، وصديقة العمر في السراء والضراء، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، ويكشف لها ضرا ويزيح عن كاهلها شقاءا مرا…. أشقى كاهلها وانهك أحبابها…. في هذه اللحظات أنتبه الزوج لقلق زوجته فما كان منه إلا أن ضمها إلى حضنه الدافئ الحنون، لكي يكسر قيد الحزن الذي كبلها والتيه الذي ملأ فكرها قائلا: هوني عليك .
لم تشعر لحظتها الا بضعفها واخذت في بكاء حاد..تذكرت لحظتها حلما قديما وكأنها تراه أمامها رؤيا العين ….مساحات واسعة من الخضرة والانهار تطمع فيها الانفس ويطيب لها الخاطر وجبال من الذهب الصافي الذي أخذ لونه بالعقول وازاح الغموم
كادت أن تطير فرحا وهي تقول اكل ذلك لي ..؟ فجاها الجواب :لا
فقالت إذن لمن ..؟
هو لمريم ان صبرت ..
لم أخبرها يوما عن ذلك الحلم لأنها كانت تشعر بالخوف الشديد كلما تذكرته و بمجرد ان يخطر على بالها اخرجت عنه الصدقات ، فقد قيل الصدقات تدفع البلاء..
كان الصمت يعم المكان الا من تشنجات وصياح أخيها عبدالرحمن الذي اتعب قلوب الجميع وهو يستغيث بالله مناجيا ومنتحبا..يا الله …رحمتك يا الله ..لطفك يا لطيف ..استغفر الله …تاملته وهو ينظر إليها… حارت الكلمات بينهما وكأنه يؤنبها لعدم إخباره بمرض اخته فازدادت قربا من زوجها لتستقوي بوجوده ..فلا تبكي …رغم ان قلبها يتقطع من الألم والحزن ..
فتناهى لسمعها أصوات تتهامس …ساحرة.. ساحرة ..والاخرى تستغفر…
نعم ساحرة …سحرت القلوب بطيبتها ..أحبها الصغير قبل الكبير ..سحرتهم بعفويتها وقلبها الواسع المتسامح الذي شمل بعض الأقرباء لها وخاصة زوجة أخيها الذي طلقها لأنها كانت تطلق الأكاذيب على اخته وتتهمها بالسحر..كانت تطلب من أخيها ان يتسامح ويصبر عليها فهي ام أبنائه و ابنة عمه….اتهموها بالسحر بعد ان فقدت فلذة كبدها عامر وناصر بدون اسباب تذكر خلال عامين متتابعين ..وتوفي بعدها زوجها وونيس وحدتها في حادث اليم وهو في رحلة عمل ..فتوالت عليها الهموم فمرضت . . وبعد إصرار كبير من صاحبتها ذهبت للطبيب ليخبرها أنها مصابة بالسرطان …ولن تعيش مدة طويلة. .. لم تصدق هدى اذنيها وحاولت تشكيك الطبيب في نتائج الفحوصات ولكنه قال لها بحزن المرض منتشر بشكل كبير ..دارت بها الدنيا تذكرت صاحبتها بعد ان أخبرها الطبيب فاذا بها تسجد لله حمدا وشكرا. .. فخرجتا من المستشفى لبيت أخيها الذي طلبت منه أن يأخذها لزيارة بيت الله الحرام لأداء العمرة…فقلبها معلق و مشتاق إلى السجود والإبتهال في عرصات تلك الديار الطاهرة ولزيارة قبر رسوله الكريم… لم تخبر أحدا بمرضها واستحلفت صديقتها على كتمان السر…ولكي تخلص نفسها من ديون الدنيا باعت بيتها الكبير قبل أن تسافر فسددت دينها واشترت بيتا صغيرا لها ، ولكنها لم تكتبه باسمها ، بل كتبت وصيه ليكون وقفا لدور العلم بإشراف اعز صديقاتها …لم تخبرها ولكنها تركت لها ظرفا تخبرها فيه بمسؤوليتها الجديدة …
تقدمت الممرضة من الواقفين وهي تتسأل بصوت عال : من هدى..ام الجلند..
نظرت هدى إلى الممرضة وهي تقول :
انا ..
ادخلي فالمريضة تطلبك بالاسم ..
تقدمت ببطء وقدماها لا تقويان على المسير والعيون تراقبها…توقفت امام باب الغرفة وهي تمسح دموعها وتستجمع شجاعتها وأنفاسها وتبتسم ابتسامة كاذبة، ولكن ما ان رأت وجه مريم المبتسم ازدادت ابتسامتها وهي تقول لها : الحمد لله على سلامة الوصول ..كيف كانت العمرة ؟؟
_رائعة بكل ما فيها.. إجابتها بصوت ضعيف وقالت لها :
هنا.. وأشارت لدولاب صغير بجانبها فتحته وقالت ستجدين فيه وصيتي وبعض المال لأهلي واخوتي وانت معهم …حاولت أن تعترض ولكنها استرسلت قائلة بصوت ضعيف : اطلب منك طلب..
تأملتها هدى بحزن وهي تقول لها: آمريني …
اشتقت لتلاوة القرآن هلا قراتي لي شيئا منه بصوتك الحنون …
اخذت هدى القرآن من حقيبتها وبدأت بالترتيل بصوت شجي نقي..فلم يوقفها الا صوت جهاز القلب الذي أعلن وفاة مريم ..ماتت وهي تحتضن يد صديقتها وابتسامة كبيرة بالرضى تنير وجهها ..
إنا لله وإنا اليه راجعون …هنيئا لك بما صبرت يا أخيه…اغتصت الكلمات في صدرها فلم تشعر الا بنفسها تسجد لله طاعة لامره .. …