تفجير جسر القرم كإحدى أهم البنى التحتية الروسية التي تربط شبه جزيرة القرم مع روسيا، وتفجير أنبوب غاز نورد ستريم الذي سبقه،واستهداف المناطق الأربع المنضمة حديثا بالاستفتاء إلى روسيا (دونيتسك، لوهانسك، خيرسون، زاباروجيا) كل هذه العمليات تجاوزت إطارالعمليات التقليدية في المواجهات العسكرية، لتؤكد أن الغرب يعوِّل على إضعاف روسيا واستنزاف قدراتها بالاعتماد على مثل هذه العملياتالنوعية التي وصفها الجانب الروسي بالعمليات الإرهابية. لكن نتائج هذه العمليات ـ حسب الوقائع الميدانية والسياسية والاقتصادية العالمية ـلم تضعف الموقف الروسي، بل إنها أكدت أن روسيا تتحكم بحساباتها الزمنية الدقيقة، وتحديد أهدافها الميدانية في إطار العملية الروسيةالتي لم يرفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سقف نوعيتها رغم المطالب الشعبية الروسية التي تطالب برفع مستوى العملية إلى إعلانالحرب.
الرئيس الروسي سارع بإجراء بعض التغييرات بتعيين سيرجي سوروفيكين قائدا جديدا للجيش الروسي في أوكرانيا، وكثَّف العملياتالروسية في العُمق الأوكراني، وحدَّد أهدافا جديدة وضربات نوعية دلَّت على أن الروس هم من يتحكم بميدان القتال، وأن الخطة الزمنيةالروسية تسير بتوازنها المعهود منذ بدء العمليات في ٢١ فبراير العام الجاري وحتى اليوم.
الرصيد الروسي في العملية النوعية ما زال محتفظا بمزيد من الإمكانات والقدرات، سواء العملياتية أو السياسية أو الاقتصادية، فمناطقالنفوذ الروسي والجمهوريات المحاذية، وخصوصا بيلاروسيا، تتواءم مع القيادة الروسية. وفي ظل العمليات الروسية كان هناك اجتماعللرئيس بوتين مع عدد من قادة تلك الجمهوريات، وفي الدائرة الدولية الأخرى كان هناك أيضا دعم خارجي بامتناع عدَّة دول عن التصويتلصالح قرار أُممي يُدين ضمَّ المناطق الأربع إلى روسيا وأبرزها البرازيل والصين والهند والجابون، وبالتالي فلا يمكن تمرير قرار دولي فيإطار حالة من التوازن الدولي بدأت تجتاح العالم في مواجهة عالمية عبَّرت عن صراع محاور ومصالح دولية ورغبة في تغيير النظام الدوليالأحادي إلى نظام متعدد الأقطاب، وهو قادم لا محالة من خلال العملية الروسية في أوكرانيا والتي يقف على طرفها الآخر ليس أوكرانياوحدها، بل دول الناتو. بالمقابل هناك مجموعة البريكس وحلفاء روسيا الذين يملكون أوراق قوة في إطار مواجهة تفتح جميع الطرق نحو عالممتعدد الأقطاب.
ما زال الرد الروسي في إطار العملية الخاصة في أوكرانيا، كما حدد تسميتها، وما زال الرئيس بوتين غير مستعجل النتائج في حساباتهالزمنية المتسارعة نحو الشتاء والذي قد يكون شتاء قارصا على أوروبا التي تدرك المستقبل المحفوف بالمخاطر في حال جاءت النهاية لصالحروسيا وهي على طرف مواجهتها، وبالتالي هي تسجل حالة سياسية غريبة في سياق التحوُّلات الدولية، وهذا قد يكون خيارها الاستراتيجيالذي تعوِّل عليه، بينما كان يمكن لأوروبا أن تكون طرفا في سياق التحوُّلات والأقطاب الدولية، لا ضرر ولا ضرار، ولكنها حددت خيارها منذالبداية وهي أعلم بمصالحها.
الموقف في أوبك بلس حدَّد خياره بتقليص سقف الإنتاج النفطي بتخفيض مليوني برميل يوميا، وهذا لم يحدث قريبا، مما يؤكد أيضا أنالدول الأبرز في منظمة أوبك تراعي مصالحها أولا وليس مصالح الآخرين، وهذا التخفيض يؤمل أن يوقف تراجع السعر العالمي في ظل حالةركود متوقعة. وقد أعلنها وزير الطاقة السعودي الأمير عبدالعزيز بن سلمان: “نحن معنيون أولا وقبل كل شيء بمصالح المملكة العربيةالسعودية” وأكد “أن المملكة لديها مصلحة بأن تكون جزءا من نمو الاقتصاد العالمي”، و”أن منظمة أوبك ينبغي أن تكون استباقية فيمعالجة التضخم برفع أسعار الفائدة”. وأعتقد أن الموقف السعودي يقدم درسا في معنى المصالح الوطنية لكل بلد يمتلك من أوراق القوة. والمعلوم أن المملكة تعد أكبر المنتجين في منظمة أوبك بمقدار ١٠،٨٣٣ مليون، بينما يبلغ إنتاج أوبك ٢٦،٢٧٦ مليون ودول خارج أوبك١٦،٩٣٠ مليون بإجمالي ٤٣،٢٠٦ مليون برميل يوميا لدول أوبك بلس، والذي سيتم تقليصه بمقدار مليوني برميل في الفترة القادمة. وهذهالإشارة لم تكن بارزة في العقود والسنوات الماضية، ولا يمكن أن تكون إلا في سياق التحوُّلات الدولية الموازية لإعلان مواقف كبرى في إطارالنظام العالمي.
الرئيس بوتين منذ البداية، ورغم امتلاكه عددا من أوراق القوة العسكرية والاقتصادية والتحالفات الدولية مع قوى عالمية صاعدة، وضعمحددات في العلاقات الدولية بعدم اقتراب حلف الناتو بالقرب من قواعد روسيا ومناطق نفوذها، ولكن القرار الآخر كان يستدرج أوكرانيالإعلان انضمامها للحلف، وهو ما يُمثِّل تهديدا للأمن القومي الروسي، وتم الدفع بهذا الاتجاه، وأعتقد أن محاولات أعداء روسيا اليوم وقفهذا التمدد الروسي قد باءت بالفشل، والزعيم الروسي أشار ـ في أكثر من خطاب ـ إلى أن العالم يتجه إلى نحو عالم متعدد الأقطاب، ومنلا يرى هذه الحقيقة فهو لا يرى الواقع.
خميس بن عبيد القطيطي