قراءات في القصة القصيرة جدا في الأدب العماني (1-3)
خالد بن علي المعمري –
لا يمكن أنْ نعدّ الصورةَ التي تُقدُّمها الكتابةُ الإبداعيةُ عن المجتمعاتِ أنها صورةٌ واقعيةٌ، إنها في أغلب أحوالها صورةٌ متخيّلةٌ نابعةٌ من تخيلات الكاتب وإحساسه بثقافة المجتمع والحياة التي يسردها داخل نصوصه، لذا فكثيرا ما يُصدّر الكُتّاب كتاباتهم الإبداعية بإشارة مهمة تتعلق بالشخصيات والأحداث أنها متخيلة ولا تمت للواقع بأي صلة في حال مطابقتها لأي شخصيات وأحداث وقعت في الواقع.
ومع ذلك فإنها تبقى صورةً تستمد أفكارها من مرجعية خارجية ربما أبصرها الكاتب، أو سمع بها، وعبّر عنها فنيا في نصوصه.
في مجموعة (عصفور أعزل يضع منقاره في وجه العالم) للقاص سعيد الحاتمي الصادرة عام 2016م عن الجمعية العمانية للكُتّاب والأدباء، وبيت الغشام للنشر والتوزيع، ينقلنا الحاتمي في إطار قصصي مختلف البناء والتكثيف والدلالة والثيمات إلى مجتمع تتعدّد شخوصه، وتتنوع أمكنته، وتختلف فيه الأفكار والقضايا التي يقصدها.
إنّ عصفور الحاتمي يضع منقاره فعلا في وجه المجتمع الذي يعيشه، والعالم المحيط به. لقد رصد ظواهر مختلفة في ثقافة المجتمع وهويته، وقدّم شخصياته بناء على موقعها في المجتمع، فأظهر لنا نفسيات الفقير، والعامل البسيط، والمرأة الجميلة، والوافد، والمُخبر، والمواطن العادي، والبائع، والمشرد، ويتعامل مع هذه التركيبة بلغة تتوافق مع شخصياته، بل مع طبيعة المكان الذي تعيشه الشخصيات، وما هذا الحشد للشخصيات في حدود الأمكنة التي حدثت فيها الأحداث إلا محاولة لنقل صورة متعددة لمجتمع ذي ثقافة واسعة، مجتمع متنوع في عاداته، فكانت الأمكنة التي قصدتها المجموعة متنوعة بين المدينة والقرية والبحر والجبال والأودية والمقبرة ومحطة البترول والمقهى والغرفة…
إنّ لنفسية الشخصيات التي جاءت في المجموعة أهمية كبرى في إيصال فكرة النص، رغم قصره، وهذا بطبيعة الحال ما تمتاز به كتابة القصة القصيرة جدًا، كونها نصا يعتمد في بنائه على محدودية الألفاظ، والتكثيف اللغوي، والقفلة المدهشة، مع سيطرة الفكرة في مضمونها، فنجد تأثير نفسيات الشخوص في بناء النص القصصي القصير عند الحاتمي واضحًا، ويمكن الإحالة على نصوص: (جوع، ووطن، ومحطة) للوقوف على مقدار الصورة المثقلة بالهم الإنساني والتي انعكست على إيجاد صورة سردية تتناول قيم الفقر والبؤس في مجتمعاتنا. إنّ جُملةً مثل: «أعود إلى شقتي الصغيرة حاملًا كيس خبز واحدا فقط.. أصل متأخرًا كالعادة وأجد طفلتي الوحيدة وقد نامت جائعة وحزينة». جملة دلالية في نص قصير يحمل عنوان (جوع: ص7)، له انعكاسه على النص فيما قبل هذه الجملة، وما بعدها، إذ يتشكّل النسق الثقافي بإعادة قراءة هذه الجملة، وإعادة تسريع السرد في انطلاقه نحو التعبير عن حال الشخصية والأسرة، ومع هذه الجملة تتشكل جملة أخرى/ قفلة النص التي معها تنفجر دلالات الصورة معبّرة عن حال هذه الأسرة: «نجلس متقابلين نأكل بفتور [صحن الفاصولياء المعلبة والباردة] ونفكر بطفلتنا التي نامت جائعة وقانطة».
إنّ الحاتمي يتلاعب بالتعبيرات النفسية لتوليد صورة سردية عميقة، وهذا يتأتى من خلال جمل نشأت من باطن الشخصية من مثل: «نتحلق حول أمنا التي تعلمنا كيف نرص الحجارة الملساء تحت الأحزمة.. أمنا.. ماذا سنأكل غدا..» ص64. أو «المدينة فقدت ضجيجها إلا من ستة سائقين يلعبون الورق وسابع منكمش في فراشه كعصفور يفكر في ابنته البعيدة التي أرسلت زوجته قبل قليل بأنّ حرارتها مرتفعة وزجاجة خافض الحرارة الوحيدة الموجودة بالمنزل فارغة..» ص70. كما يظهر هذا التلاعب في رسم صورة غريزية متعلقة بالمرأة، ومرتبطة بجسدها، صورة تحيل على مجتمع متعدد الطبائع، قائم على الاختلاف النفسي والبشري في تكوينه، وعلاقة المرأة بالآخر الذكوري باستخدام لغة تصويرية للمرأة/ الجسد أحيانا، وللمكان المرتبط بعالمها التخييلي، نجد ذلك مثلا في نصوص: (موعد، شباب، سرعة، تكدّس، إسكافي).
إنّ المتأمل في القصة القصيرة جدا عند الحاتمي في هذه المجموعة تستوقفه نقاط عدة حول تركيب هذا الجنس الأدبي، واشتغالاته الفنية، وثيماته، ولغته، منها على سبيل المثال: إنّ التكثيف اللغوي والدلالي ليس معيارًا مهمًا لدى الحاتمي في بناء نصوصه، إنه ينزل أحيانًا لاستخدام لغة بسيطة، وتعبيرات بسيطة وصولًا للفكرة التي يقدمها للقارئ.
كما أنّ الحاتمي يعمل على التنويع في صنع شخصياته، إنها شخصيات متنوعة بين الإنسان العادي، والشاب والفتاة التي من خلالها يكوّن حضورا سرديا متوازيا مع الحدث وتشكّلاته لحظة القراءة الخارجية، وإضافة إلى ذلك فإنه يعتمد على شخصيات أخرى ليست بشرية في تكوين أحداثه، فلا ضير أن تكون شخصياته الرئيسة قطرة ماء، أو كلابًا، أو عصفورين طالما أنه يستطيع من خلالها الدخول إلى فكرة يُسقطها على واقع يتخيّله ويقدّمه للقارئ. في نص (حظ) يصنع الحاتمي من قطرة ماء شخصية تتحرك في النص، مُشكّلةً حدثًا أو فكرةً متخيّلةً، وكما تسرّبت القطرة من صنبور الماء وانطلقت إلى العالم الواسع، فإنّ الفكرةَ انطلقت معها في التشكّل، فيرسم الحاتمي معها اتجاهات متعددة لانطلاق القطرة: «من الوارد جدًا أن تتحول بللا على وجه رجل يتوضأ ثم تتبخر والرجل يمشي في الظهيرة إلى المسجد… قد تختفي في ظفيرة طفلة جاهدت أمها كي تغسل لها شعرها القصير. وهناك احتمال كبير أن تسقط في مرحاض ضيق ممتلئ بالقذارة..» ص21.
إنّ القاص هنا لا يرسم مسارًا محتملًا لقطرة ماء سقطت من الصنبور فحسب، إنه يرسم مسارًا متخيّلًا لهذه الحياة التي نعيشها، مسار الفكر والأيديولوجيا اللذين نعيشهما، مسار الطفولة، أو مسار الوحل الذي نحاول أن نغسله من واقعنا، إنها فكرة تحتمل أكثر من تأويل، وصورة لواقع نحاول أن نغسله عنا أيضا.
ويمكن الإشارة إلى أنّ نصوص الحاتمي بُنيت في إطار القصة القصيرة جدا في أغلبها حين جاء السرد معتمدا على عناصره، لكن اللغة قد تخون الحاتمي أحيانا ليخرج عن مساره القصصي إلى الاشتغال على نصوص مفتوحة، أو نصوص نثرية تستخدم لغة شعرية حالمة، ففي نصوص: (نهار، وشجرة، والراعي، ورغيف، وصياد، وغروب، وشتاء) تقود اللغة السارد إلى تشكلات الشعر، وسيمفونية اللغة، ورومانسية الصورة، وهو خروج اقتضته الفكرة والدلالة التصويرية الحالمة التي فجّرت عوالم اللغة في باطن السارد وجذبته إلى عالمها المتخيل.
يقول في نص (نهار: ص19): «جالسٌ على حافة العشب.. أرقبُ شمس النهار تمرر ضوءها على ظهر يدي..». ويقول في نص (غروب: ص68): «كبرتقالة تغطس في دورق.. هكذا اختفت الشمس… وبكل بساطة». ويقول في نص (رغيف: ص37): «الأمهات يغربلن الطحين على المنخل.. يعلمنه أن يصبح رغيفا قبل أن تستدير المائدة..»، وهكذا فإنّنا لو أعدنا ترتيب الأسطر السابقة لوجدنا أننا نميل مع النص إلى تقاطعات القصيدة النثرية، أو الخاطرة على سبيل المثال، وهو اشتغال أظهر الحاتمي فيه قدرته الجمالية ودلالاته التشبيهية في إيجاد نص موزّع بين السرد والنثر ولغة الشعر.
في المجمل، إن نصوص المجموعة عبّرت عن رؤية داخلية للقاص، انطلقت من حكايات القرية وجبالها وأوديتها إلى المدينة التي تضج بعالم أكثر اتساعًا في ظل مقارنات بين عالم القرية والمدينة، وعالم المدينة وعالم المدن الأخرى الخارجية.
إن سعيد الحاتمي اقترب من المكان ونقل صورته، وأضاف إحساسه المتخيل بالإنسان والواقع ليقدم نصوصا في مجملها تقوم على نقد المجتمع، إنها تجربةٌ ثريةٌ في كتابة القصة القصيرة جدا، ونصوصٌ تشتغل في إطار ضيق حول مفهوم واسع للسرد. إنّ عصفور الحاتمي يرسل إشارات دلالية وجمالية وثقافية للقارئ في فضاء واسع، ومتعدد الأشكال والرؤى. ما زال ذلك العصفور يطرق نافذة الحكاية، ووحده الحاتمي من استمع للطرقِ فكتب حكاية ذلك العصفور.