ربما مما تحتاجه الأمم في أيام بهجتها مع احتفاءها بمنجزها أن تكشف أيضا عما يشكل خطرا عليه وعلى استقراره مما قد يعده حاملوا لواء “لكل مقام مقال” بتعاطيه خروجا عن السياق، إلا أن هناك زاعمين آخرين لا يُعْيِيهم إثباتُ أنه من مقامات المراجعة والنقد مقامات الاحتفاء بقيام الدول وبدايتها، بعيدا عن السودوايين ونشطاء ما وراء الشاشات، من باب ربما إظهار الخلل في مقام السعد، ليس لتكدير الاحتفال قدر ما هو لإضعاف الخلل ولفت النظر اليه والعزم على تفتيته بشكل حقيقي وسريع، حتى لا يكونَ عيبٌ، ويكونَ كمالٌ لا كدر فيه..
كلَّ عام وعماننا الغالية في تقدم ورقي وسؤدد، وكل عام وأبناؤها في دعة وأمن وسلام، ومع تحقق الأخيرَين بصورة استثنائية بفضل الله وكرمه، رغما عن المفتونين والمتسلقين، لا سيما خارجيا بسياسة عدم التدخل في شؤون الدول، وداخليا من حيثُ النزعةُ القبلية والمذهبية وانتماء النسيج العُماني الداخلي للدولة المركزية، بسياسة القائد الحكيم سلطان البلاد أمد الله في عمره وآجره، الا أن هذا التحقيق العظيم يبقى رهينة لاستقرار المقيم بعيد المدى (مواطنا وغير مواطن) وأمنه الاجتماعي والاقتصادي والوظيفي الداخلي، وهو أمر إن لم يعمل على معالجته والتنبه له وإعطائه حقه في الاهتمام والتركيز فإنه القاتل الصامت للأمم، مهددا المنجزات ومهدرا للمكاسب، وذلك أن يكون الفرد ثانويا أو درجة ثانية مقابل المؤسسات، يعيش على هامش التنمية وليس محورها الأوحد، فتتقدمه المؤسسات وتجثم على صدره دون رقيب أو حسيب..
يعد الإنسان أولوية في نظر سلطان البلاد وسياسته منذ البدء، إلا أن غياب الاهتمام بالمواطن مؤخرا في بعض الجوانب خدمية وغيرها أو حتى قلة الاهتمام به وعدم جعله أمرا محوريا ورئيسا في التنمية لا يجوز المساس به وبحياته الحالية والمستقبلية وصيرورته عبثا في يد المؤسسات، “متنهجلا” ومرددا به بين بيروقراطياتها المضنية يعد لا شك معول هدم لكل شيء قد يكون تحقق على المستوى البعيد، فمن سَتَخْدم تلكم الأحجار والبنايات الفارهة إذا باتت خواء من داخلها بنظمها ومنظومها وكان الانسان ضحيتها، وهل سيشعر الضحية بواجب الذب عنها والانتماء اليها وهي من شفطت قلبه، وحاربته في لقمة عيشه، ونافسته في حياته، ولَم تنصفه في مظلمته على مدى سنين! وهل من غافل عما صنعت فوضى الأمم وحراك الشعوب الاخيرة وما كان أول ما سقط من مؤسسات عامة وخاصة بين يديها وما هو موقفها من المواطن وخدمتها وعلاقتها به قبل انفلاته بعشرات السنين؟!
فنظام الاتصالات مثلا لا يجب أن يمثل خدمة “المطففين” الذين جعل الله لهم الويل في كتابه، باستيفاءهم ما لهم على المستهلك من كيل (أجورهم الشهرية) وبإخسارهم ميزان غيرهم (الخدمات المتردية)، ومؤسسة الحكومة المسؤولة عن تنظيم الاتصالات في السلطنة لا يجب أن تعرف بمبناها الفخم مقابل مبنى المطار القديم فقط، بل بعمل فخم يوازيه، والذي يبحث الجميع عنه ولا يجده، وقد رشح عن غيابه ما نراه من أخطبوطية كبرى تلتف حول رقبة المستهلك بخدمة زهيدة، ولَم يستطع المواطن فك هذا الشَرَك والانطلاق وكسر القيد والتحرر، رغم محاولاته عبر المقاطعة والبكاء على المساحات المتاحة استجلابا للرحمة فلم تزدد شركات الاتصالات إلا عنجهية وتسلطا، وفحشا في الثراء حتى رابت على شركات عالمية كڤودا ڤون (Vodafone) وبريتش تلكوم ( BT) وزادت عليها في صافي أرباحها النسبية رغم عشرات ملايين الزبائن لتلكم الشركات والخدمات المتطورة لها، ولَم تكن تلك الأريحية والثقة لتكون لولا غياب الرقيب الساهر على جودة الخدمة من أجل المواطن والوطن ونيابة عنها (الوحدة الحكومية المسؤولة)، والأسباب قد تتفاوت بين عدم كفاءة لتصل إلى أبعد من ذلك مما يجب على جهاز الرقابة كشفه بصورة عاجلة.
إن ما مثلناه في قطاع الاتصالات يصدق في قطاعات أخرى لا تقل حساسية بل تزيد في أكثرها كقطاع التعليم الذي مع تقدمه في الآليات والتقنيات في جهة إلا أنه يتخلف في الاستراتيجيات المعنية بتجويد العملية التعليمية في السلطنة، وربما من أبسط أشكال ذلك هو التنسيق والتكاملية بين أطراف العملية التعليمية وعدم وجود التمثيل الحقيقي لكل طرف أثناء دراسة القرارات لا سيما الاستراتيجية، ليس فقط الشركاء من خارج الوزارة (الآباء المدارس الخاصة مجلس التعليم الخ) بل حتى الشركاء ضمن هيكلتها (الميدان والتخطيط مثلا) فتجد الارتجالية في القرارات ” ترس قفير“، فغياب التشاركية باد، وتعطل الوحدة الحكومية المعنية بالتعليم عن التمسك به والمكافحة بمعناها الحرفي بتجريده وتذليل الصعوبات أمام أطرافه لا يخفى، والمحكمة الإدارية شاهدة، وحادثة الاختلاس بادية، بل إن الوحدة الحكومية المعنية شديدة للأسف على بعضها ممن ينضوي تحتها مباشرة موظفين أو مدارس وغير ذلك أمام أطراف أخرى خارجية كالإسكان والقوى العاملة وغيرهما.
وعلى ذات المنوال يندرج النظام الصحي، الذي يعاني فيه المواطن طبيبا ومريضا شيئا من تردي الجودة، فالأول يطالب بإعطائه شيئا من أمر يكفيه عن ما يأخذ نظيره في بلده وخارجه، والآخر ينشد الجودة في الخدمة والتطوير فيها دون عنوة ذهاب للخارج والغياب وسكب ماء الوجه استجداء من الأشخاص أو الجهات من أجل الصحة، جراء الثقة المفقودة للنظام الصحي بالداخل…
أما القوى العاملة ونظام التشغيل عموما فقد بان وضعها الحرج في أمرين اثنين ظاهرين، تراكم الباحثين عن عمل لسنوات عدة من جامعيين وغيرهم، فلا تكاد أسرة تخلو من باحث عن عمل، سنوات من البحث وهم صابرون، أما التجلي الثاني ففي عدم القدرة على التعامل مع العمالة الوافدة ممن يعملون في المتوسط والعليا من الوظائف، ليس فقط فيما يخص القوى العاملة والقطاع الخاص، بل حتى الخدمة المدنية والقطاع العام عموما، ومن يدخل أقسام نظم المعلومات كمثال في القوى العاملة وغيرها من الوحدات الحكومية يصيبه الدهشة من كم العمالة الوافدة المتكدسة مقابل العمانيين، ولا يبرر ذلك كونهم موظفي متعاقد أو طرف ثالث، فالعقود تكون الوحدات الحكومية طرفا رئيسا فيها، تستطيع وضع اشترطات تمنع من ترهلها واستغلالها، وتمنع من تكدس الوافد مقابل العماني، ورغم إقامة المركز الوطني للتشغيل، الا أن عدم خلوص رئيسه له، وتحميله مهمات أخرى موازية، وعدم وجود ما يشهد له في التجارب السابقة إن صدق الناقدون فإن ذلك يهدد بعدم جدوى هذا المركز وانتهاءه الى مربع ما انتهت إليه الوحدات الأخرى من عجز مقابل تفاقم الأزمة كالقوى العاملة، كما إن عدم إحاطة هذا المركز بمراحل التشغيل منذ مقاعد الدراسة الجامعية بعد الدبلوم إلى التقاعد يعد خللا آخر كبيرا، يقصر المركز بوجوده عن حل أزمة الباحثين عن عمل حلا نهائيا.
أما السياحة فتأبى إلا ان تُبتلى بما ابتليت به القطاعات الأخرى من غياب الإستراتيجيات الخلاقة، ربما لغياب الكفاءات والتي تتصل بشكل مباشر بغياب النظام المؤسسي الضامن لها، فتأخرَّ العائد الوطني السياحي سنوات طويلة، وبات الوطن وأفراده يعانون الأمرَّين، فمن تعطلٍ لعائد سياحي يخفف من اثر الانهيار النفطي الوشيك والحال المتذبذب، إلى مواطن ومقيم وسائح لا يجد خدمة قضاء “نداء الطبيعة” ليقضي حاجته تحت الأشجار، كما كان يفعل الإنسان البدائي ما قبل العصر الحجري..
لا يقف الامر على القطاع الخدمي فيما يجب الاهتمام به ويمكن تجلي قلق الحليم وخوفه من خلاله، ولكن يتعداه ليشمل الجانب القضائي، فالسلطة القضائية سلطة ضامنة للعدالة، والعدالة ضامنة لاستقرار المجتمعات وأمنها ويعد عنصرا جاذبا لرؤوس الأموال للاستثمار في البلد والإفادة منه للبناء والتعمير وإيجاد فرص العمل للمواطنين حد الاكتفاء، الا أن الجودة في المؤسسة القضائية وفِي أي منظومة عبر عمليات المراقبة والتدقيق المستقل من خارج المؤسسة يُعَدُّ أمرا واجبا، وذلك بخطوات موضوعية وعلمية بسيطة بدءا باستبيان عن مدى رضى الناس عن آلية عمل المؤسسة القضائية مثلا وناتجها، مثنيا بعملية تدقيق من جهة مستقلة على نظامه العام من خلال ثلاثة مستويات أو محاور رئيسة؛ الأول اللوائح والهيكلة المعنية بتحقيق الغاية منه وهو الحكم العادل في أسرع زمن، والثاني عن مدى العمل به وتطبيقه من قبل الدوائر المختلفة والموظفين المخولين في الميدان، والثالث عن مدى استقراره عبر اختبار فعالية التفتيش القضائي الداخلي، ولتحقيق ذلك فلا بد من وجود الرغبة الأولية للمجلس الأعلى للقضاء ومباركته ذلك وإدراكه بشكل حثيث حاجة أي مؤسسة ما الى ضبط جودة خدمتها مهما تباينت مهامها وتخصصاتها، وبدون ذلك فأي سلطة قضائية لن تكون بجودتها ولا بكفاءتها ولن تضمن على المدى البعيد الاستقرار لأوطانها لا أمنيا ولا اقتصاديا ولا حتى اجتماعيا بغياب العدالة وغياب تحقيقها من القائمين عليها.
أما خارجيا فسياستنا لا يشق لها غبار في أصل توجهها منذ النهضة المباركة، إلا أن ما يجب التنبه له هو عدم الانجراف مع التقليعات الاخيرة للسياسة المراهقة التي يديرها ساسة غر، ابتلي العالم بهم، مهما كانت الدول التي ينطلقون منها عظمة وتاثيرا، لا سيما تقليعة التطبيع مع الكيان المحتل في فلسطين، وأن تبقى عمان بعيدا من أن تكون مطية للمحتل ولسانه المعسول على حساب المبدأ والعدالة والقرارت الدولية من وجوب إقامة دولة فلسطين أولا قبل الاعتراف بكيان الاحتلال دولة مستقلة، دون الحاجة أيضا الى الدخول في متاهات التأليب الإعلامي او استدعاء العداوة لدين أو جنس، غير وضع الوصف مكانه دون مكياج، فالكيان هو كيان محتل، وليس دولة، وله جيش محتل، وليس له جنوب ولا شمال، وهنا فلسطين محتلة، أما ( إ س ر ا ئ ي ل) فلا تجتمع حروفها في لساننا قبل أن يوفي المحتل بقرارات الامم المتحدة وتقوم فلسطين اولا…هذا لو تنازلنا عن الحق، وهو حدود ١٩٤٨ لفلسطين واحدة لا شريك لها، فالعماني ليس منفصلا عن قضية القدس، وقضية فلسطين قضيته وتقديرها تقدير له واحترام، والحذر من الاختراقات الثقافية القائمة اليوم حتى لا يكون العُماني “فغو” حاشاه، بل يكون شامخا كما هي عمان منذ آلاف السنين.
لن يسع هذا المقالَ المقامُ للتطرق الى كل ما يشغل البال مما أراه خطرا على منجز عظيم قام على رجل حكيم منذ النشأة، ولكني أتَوسم أن يكون فيما مر كفاية للتدليل على خطر المستقبل إن لم يتدارك الحاضر موقفه، وما أكثر الأوفياء من أبناء هذا الوطن العظيم على مختلف الصعد، والأمر لا يتطلب الا وظيفة مستقلة وموظفا كفئا ذَا مبادئ في تأدية واجبه وولاءه لوطنه وقائده ومواطنيه اكبر من ولاءه لغيرهم ولو كانت نفسه، ومن أُذُنٍ واعية حكيمة تستفيد من واقع ما ترى لتسييج مستقبلها من خلال إصلاح حاضرها، بعيدا عن خدمات المطففين، أو المترهلة بطونهم، أو المتلبدة عقولهم، والى مواطن حر يعشق وطنه حتى النخاع، ذي كفاءة وحكمة ويقين، والى هيئة ضبط جودة أو تدقيق ومحاسبة مستقلة بمعناها الحرفي، وليس جهة توصية تفتش وترفع التقارير وتنتظر الإشارة بفعل شيء أو بعدمه من جهة عليا فردا أو مؤسسة، دون ان يكون لها فوق رفع هذه التقارير تحريك ملفات مخالفة أو تقديمها للعدالة ان لم تبارك جهة بعينها ذلك، فما يغني البناء والفخامة والأسماء الضخمة للمؤسسات اذا كانت منزوعة الامر والاستقلالية نظاما ولوائح، أو كان القائمون عليها غثاء كغثاء السيل، أو لم يكن هناك نظام تفتيش صارم حازم عادل، يجعل الوطن والحق العام في عينيه، وتنحني الهامات مهما علت إكبارا واجلالا له وتقديرا….
حفظ الله عمان وحفظ قائدها وسخر لها من رجالها ونسائها من يقف سدا منيعا أمام القاتل الصامت لجسد الامم، الترهل والتطفيف وأكل أموال الوطن والنَّاس ظلما وعدوانا، ومتعنا الله بالمنجز والمكتسب، وأعاننا على منع القاتل الصامت من النخر في كينونتنا العمانية عبر ما قدمنا من مثال، وكل عام والجميع بخير.
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
٢٣ يوليو ٢٠١٩ (معدلة من مقال في ٢٠١٨)