قد يكون سكان مسقط ومطرح وصلالة هم الوحيدون في عُمان الذين شعروا بنوع من التدرج في تغير حياتهم اليومية، وذلك بين فجر 23 يوليو من عام 1970م وما قبل ذلك من سنين مضت، فقد كانوا يعيشون على نماذج من الحياة العصرية، فمنهم من رأى نور الكهرباء حتى ولو عند عِلية القوم من الجوار القريب، أو سمع مذياعاً لإذاعة تبث من بلد بعيد، أو رأوا سيارة تسير على عجلات يتطاير من تحتها الغبار، أو سمعوا رنين هاتف وهم يمرون بجوار متجر من المتاجر القليلة، وربما لا يعرفون معنى ذلك الرنين، أو عرفوا عن الطب من خلال مرورهم بجوار عيادة طومس في مطرح، ذلك الذي أتى مبشراً بالمسيحية، ولم يأتِ لطبابة الناس، وقد يكونوا رأوا الطرق الحديثة من خلال مرورهم – ولو مشياً على الأقدام – بجوار طريق عقبة ريام، الذي يربط بين مسقط ومطرح لمسافة 4 كيلومترات، وكان مجرد فرشة من الأسمنت وليس من القار، وقد رأوا بحكم الجيرة للبحر سفينة خشبية تقف على مسافة من شاطئ البحر، يتم الوصول إليها بقارب صغير يسمى “الشاشة” المصنوع من سعف النخيل، ثم تُسْتَكمل بقية المسافة مشياً على الأقدام في المياه الضحلة، فكل ذلك يُعد نماذج لشيء من التطور، الذي لا يضاهي ما وصل إليه العالم المتقدم، أو حتى في مناطق أخرى مجاورة.
أما سكان المناطق البعيدة عن البندر والساحل، فكلما توغل الإنسان أكثر في الجبال، أو نأى في الصحاري العُمانية، فإنه شعر بإنقلاباً كبيراً بين قبل وبعد 23 يوليو، فكان ذلك الاختلاف معنوياً في بداية الأمر للصورة التي كنا نعيش حياتنا فيها، ثم لمسنا هذا الفارق حسياً بعد فترة وجيزة من الزمن، فأنا أحد الذين عاشوا العصرين، فلا أبالغ إن قلت كنا نعيش حياة القرون الوسطى قبل فجر 23 يوليو من عام 1970م، فهذا التاريخ لا ينسى من الذاكرة، فقد كنا نعيش فعلاً حياة القرون الوسطى بكل تفاصيلها، فقد كان الناس في جوارنا لا يسافرون فقط على السيارات والقطارات، وإنما يتنقلون حول العالم بالطائرات النفاثة، وكنا نرى تلك الطائرات تمرُّ أعلى رؤوسنا، ونخاف أن ترانا، ونختبئ عنها في الكهوف أو تحت الأشجار، ونجهل ما هذا الشيء الذي يسير في السماء، وحتماً لم نكن لنصدق أنها تتسع لأصبع إنسان، لأننا نرى حجمها صغيراً جداً وهي على ارتفاع شاهق، فنصفها بشيء من الخوارق، أو نشبهها بالجن والعفاريت، لكثر ما حُشيت عقولنا الغضة بخرافات خيالية، وما كنا نسمعه عن قصص وبطولات عنترة والزير سالم.
إذن فجر 23 يوليو كان بالنسبة لنا كإنقلاب الليل إلى النهار، لأننا كنا نفتقر إلى أبسط الأمور الضرورية، ليس ذلك من شدة فقر وإنّما من قسوة في التدابير، وإهمال في الرعاية، فعلى سبيل المثال ما كنا نجد الدكان الذي يوفر لنا علبة كبريت نشعل بها موقد النار للطبيخ، أو للتدفئة في الشتاء القارس، بل كنا نتناقل قبسة النار من منزل إلى منزل، لأنّ إشعال النار للطبخ كان هماً كبيراً في زمننا، حيث يتم قدحها من خلال أحجار خاصة، ونتلقف الشرر بشعيرات شجرة نسميها شجرة “الهبو” فهي خيوط ناعمة جداً والبعض يغمسها في البارود ليعطيها خاصية في سرعة الاشتعال، وهذه الشجرة من الأشجار النادرة، ولا يعرفها إلا قلة من الناس، وربما كانت هي الشجرة التي ضرب الله بها مثلا في القرآن الكريم بقوله تعالى:(فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثّاً) (الواقعة 6) وذلك كناية عن الضعف والرقة والخفة، وهناك من يستخدم “لِيِف” النخيل، وقد يعوض عن الهبو مع زيادة الجهد، فهذه صورة عن كيفية إشعال النار، وهذا نموذج من نماذج كثيرة عن الحياة في القرون الوسطى، فعندما أتيحت لنا الفرصة أن نشاهد أفلام السينما، وقد اهتم الناس بوصف كيف كانت الحياة صعبة في العصور الوسطى، فصوروا لها الأفلام، فكنا نحن الحضور نمثل أولئك الناس، الذين حُكى عنهم في قصة الفيلم، فشاهدنا حياتنا ومعيشتنا مسجلة في أفلام سينمائية، فعرفنا حجم المسافة التي تأخرنا فيها عن غيرنا، عندما توقفنا نحن وتقدموا هم.
لقد ظلم البعض النهضة العُمانية، لعدم الإشادة بها، وعدم تقدير عالياً ما وجدوه قائماً بسببها، أو ما تطور أمام أعينهم رأي العين، وظلموها أكثر بانشغالهم بالمقارنات مع الآخرين، فقط لأنّهم أصاخوا السَّمع للهرطقات الإعلامية الكاذبة، ولم يروا الحقيقة الكاملة، وإذا رأوها رأوا جانبها اللامع وحسب، ولم يعرفوا كنهها وعمقها الغائر، وظلموها أكثر لأنّهم ببساطة شديدة، لم يعيشوا كما عشنا نحن ما قبل السبعين، ولم يقارنوها مع الماضي القريب كما قارنا نحن ذلك، فذلك الذي وصفت لكم في الفقرة السابقة جزئية قصيرة، قد عشتها شخصياً – أنا كاتب هذه السطور – لفترة وجيزة، بدءاً من منتصف ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وصولاً إلى 23 يوليو 1970م وليس أكثر، فهذا شيء معاش وغير مستنبط من قراءة الكتب، إذن أنا وكل جيلي، لم ولن نظلم النهضة وقائدها مثقال ذرة في الاعتراف بأفضالهما علينا، وقد نظلمهما عن غير قصد، بما قدمنا من خدمات وأعمال، لا تفي النهضة حقها، وذلك مقابل ما قدمته لنا من علم ومعرفة، وعزة وكرامة، وأمن واستقرار، وسكينة ورخاء، وشأن كريم عظيم بين الأمم.
إذن؛ نحن العُمانيين نُدين بالمحبَّة والولاء لسلطاننا قابوس المعظم، الذي قاد هذه البلاد الكريمة العزيزة من رخاء إلى رخاء، ومن عزة إلى عزة، ومن كرامة إلى كرامة، وليس لي شأن بالذين يقدِّرون المحبَّة بقَدر مكسب المال والعطايا؛ فمن كان نهجه الأخذ دون التفكير بالعطاء فإنّه لن يشبعه إلا التراب، ومن لا يعرف الشكر والامتنان فإنّه لن يعرف الخير والسلام، ولن يشعر بالشبع طول حياته.
اللَّهم أعز عُمان، وأرفع من شأنها أكثر وأكثر، واشفع لها بدعاء رسولك الأكرم عليه الصلاة والسلام حين قال:(اللَّهم أرحم أهل الغبيراء “عُمان” آمنوا بي ولم يروني) اللَّهم اسبغ على صاحب الجلالة السلطان قابوس المفدى – حفظه الله ورعاه – ثوب الصحة والعافية، فهو صاحب هذه النهضة المباركة، وقائد مسيرتنا المظفرة بإذنه تعالى، اللَّهم آمين يا رب العالمين، وأدم علينا المناسبات السعيدة دائماً وأبداً، وأبعد عنا الأشرار ومكايدهم بُعد الجنَّة عن النار.
حمد بن سالم العلوي