وأنا منهمكٌ في بحثي عن الخلل الدستوري وأثره في سقوط الدول، إذا بصديق من العهد القديم يربت على كتفي ممسكا بحقيبته متجها على عجل نحو الباب، وهو يلقي علي بابتسامة ماكرة سؤالا علمته سيكون من مجموع أسئلته الجدلية؛ ” واضربوهن” ما هو موضع المرأة فيه؟! ثم توارى خلف الزجاج تاركا ضحكته المجلجلة تملؤ ردهة المكان.
ربما من التراكيب القرآنية التي أصبحت مثارا للجدل هو تركيب ” فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن” وقد بات ذلك مدخلا للطعن، ووجده الماديون، ومنهم صاحبنا هذا، مدخلا للنيل من القرآن والتشكيك فيه…
تقوم طبيعة الحياة البشرية على تباين أفرادها فيما يمتلكون من خاصيات طبيعية أو مكتسبة وما يفتقدون منها، وتقوم علاقاتهم وردات أفعالهم عليها، رضى وسخطا، من ذلك فالدولة التي تملك عنصرا طبيعيا ما كالنفط مثلا تقوم باستخدامه في ترجمة علاقاتها والدول الاخرى صداقة وعداوة، للتأثير عليها سلبا وإيجابا، من ثم تم استخدامه من العرب ضد امريكا في ١٩٧٣ تعبيرا عن العداوة، واليوم يستخدم من أجل أمريكا تعبيرا عن الصداقة للتحكم في سعر البرميل حسب ما يخدم رؤية الولايات المتحدة، كما وتقوم اليوم الولايات المتحدة الامريكية باستخدام ما تملكه من قوة اقتصادية وعسكرية كبيرة في تسيير قراراتها خارج مظلة الأمم المتحدة والقانون الدولي..
إن ذات الفكر البشري الذي يتمثل اليوم في علائق الدول وبعضها هو ذاته الذي يهيمن على علاقاته الطبيعية من الدولة الى الاسرة، أي القيام باستخدام ما يملكه هو أصالة (كالقوى البدنية للرجل والعاطفعة للمرأة) أو بمستوى أكبر (كالمال والمادة) في التعبير عن امتنانه أو غضبه اتجاه الطرف الآخر المقابل..
لقد نزل القرآن الكريم لينظم عموم هذه العلائق بما يضمن عمار الارض، وقيام الخليفة (الإنسان) فيها بدوره الموجب في الحياة وزيادة بهجتها، وحفظ حرثها (البنية التحتية) ونسلها (أجيالها)، ولَم يترفع في سبيل ذلك عن تناول الأسرة في علاقة عنصريها الرئيسين فيها (الرجل والمرأة)، إدراكا لما لهذه اللبنة و من أثر رئيس في تحقيق الغاية العامة والمشهد الأكبر في رخاء الحياة، واستتباب الأمن والسلام فيها..
لقد نزل القرآن والمرأة كانت في نير من مشاهد الامتهان المختلفة، من إزهاق روحها (وإذا الموؤودة سئلت)، الى أكل إرثها (للرجال نصيب…وللنساء نصيب)، إلى ابتزازهن في حقهن (لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها)، أو التلاعب بهن عطاء ومنعا ( ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن)، إلى تعليقهن بعد تطليقهن من أزواجهن (ولا تمسكوهن ضرار لتعتدوا)، إلى منعهن عن أزواجهن إن أردن العودة لهم من قبل عُصبتهن (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن)، عدا مشاهد الاستغلال الأخرى، فالمرأة كانت وما زالت فيما يخص الجوانب التي يتمتع بها الرجل عنها فطرة عرضة لظلمه وجبروته، ومن ذلك الجانب العضلي أو البنية الجسدية..ولَم يسلم الرجل من ذلك مهما بلغت طبقته المخملية علوا، ليبراليا، أو رجل دين، أو سياسيا، أو رئيس دولة، أو بروفيسورا جامعيا، فقد سجلت وما زالت الى اليوم ضد هولاء قضايا عنف ضد المرأة من القتل الى الاغتصاب، مستخدمين القوة البدنية والفطرية لهم على النساء.
لقد جاءت آيات القرآن منتصرة للمرأة مقابل الرجل في تنظيم العلاقة بينهما في كثير من المواضع، ولو في هبة من الرجل لها من الريالات قدر الجبل أراد أن يأخذ ريالا منه دون رضاها (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا، وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا)، والميثاق الغليظ هو جعل الله شهيدا عليهم في زواجهم، وجاءت آية فاضربوهن في ذات السياق ولذات الهدف، فقد جاءت واعية بطبيعة التفاوت البنيوي أو الجسدي الفطري بين الرجل والمرأة، ومدركة لجوء الرجل إليه طبيعة حال الخصام، فأرادت حده والسيطرة عليه من طريقين؛ موضع الاستخدام، والكم..
لقد قامت الآية في سبيل علاج النقطة الأولى (موضع الاستخدام، وعموم اللجوء للضرب في الاختلاف الزوجي)، بالدفع نحو الحوار والعظة أولا، فالهجرة في مكان المبيت ثانيا، وأخيرا بالضرب، فجعله ثالث ثلاثة، لا يتقدم سابقيه، وهو حد له وسيطرة، ومن آثار هذا التركيب المتوقعة تحويل البيئة من بيئة يلتجئ فيها الرجل لتكوينه الطبيعي في التعبير عن اعتراضه مبتدأ (الضرب واستخدام العضلات)، الى بيئة ينتشر فيها الحوار (العظة والنصيحة) ليكون هو أول الملتجأ، وهذا التحول سينتهي الى تعطيل تلك القدرة البدنية (وبالتالي الضرب)، وحفظ المرأة منها في العموم.
أما النقطة الثانية الكم أو المقدار في الضرب، فجعله محكوما بما يكون للحياة الزوجية من خصوصية، يتعايش معها الزوج والزوجة، مما لا يثير الشقاق، أو ضمن ما يمكن أن يتحمله الزوج من زوجته، والزوجة من زوجها، ولا شك أن للعلاقة الزوجية كما غيرها من العلاقات خصوصية تعنى بها وحدها، فباشتمالها لها تكون بمعنى، وبغيرها تكون بمعنى آخر، فالضرب هنا تعبير، والضرب في البنوة تربية، والضرب في الحرب انتقام، يختلف كَمَّاً وطريقة، فالكلمة بسياقاتها، لذلك تم حده بأن يكون ضمن المتقبل بين الزوجين، فما خرج عن ذلك في رأي أحدهما ولَّدَ شقاقا، وما ولد شقاقا أوجب تدخل أطراف خارج السياق الزوجي، ( فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها..)، فعدم توليد الشقاق بينهما هو حد لهما في تعابيرهما لبعضهما، وهذا يخضع لبيئات كليهما، فالملكة قد تخرجها كلمة أو إيحاء حركة أو دفشة صغيرة الى الشقاق الظاهر، وقد تصبر غيرها عليها، وهو بذلك ساوى بينهما، والحد الأعلى عموما لهذا الملتجأ الأخير عدم تخليف علامة أو أثر أو ضرر مما يفهم من سياقات طرح ذلك بين الجنس الواحد أو الجنسين من خصومة عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفِي ذات السياق وجه ما كان يأتيه القوي (جسدا) في التعبير عن غضبه أولا وحكره عليه وجعله أخيرا…وختم الآية ( إن الله كان عليا كبيرا)..دلالة على محدودية الصلاحيات، وصرامة الرقابة، كل ذلك كان في كبح نشوز الزوجة وكسر تكبرها بإخلالها بالواجب الأسري من حفظ سر البيت وصلاحها العام (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله)، أما غيرهن من الحافظات الملتزمات بواجبهن ففعل الكلمة الجارحة والهجر والضرب من الزوج لهن يعد نشوزا منه وتكبرا وشقاقا سافرا، للمرأة مجابهته عن طريق قنواتها المساندة، (وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعرضا…)
يبقى أن نجيب عن أهمية إيراد الضرب هنا في الآية، وهل عدم إيراده أولى، وهل هو أمر إلهي أم وضع فطري طبعي أراد الله ضبطه وحده بذكره؟ والجواب أن عدم الإيراد يخرج الضرب من دائرة الاهتمام، أو أنه معني، ويبقى هو ضمن المسكوت عنه، مثله مثل محتملات أخرى ممكنة كالنقص من النفقة، والتي يمكن استخدام الزائد منها (وليس الواجب) كعامل ضغط وتعبير، ولأنه مسكوت عنه، فترتيبه قد يكون متقدما، أو متوسطا، أو متأخرا، في الخيارت المنصوصة، ولأصحابها استخدامها أين شاءوها، ولأنه أمر فطري (القوة العضلية للرجل مقابل المرأة) فاللجوء إليه مرجح، وحصوله قائم عند كثير، فلما أراد المشرع سبحانه علاجه وتنظيم هذه النزعة الفطرية، ذكرها وجعلها آخرا رتبة، وأيضا محدودة بأن تكون ضمن المقبول منهما لبعضهما، وحد ذلك أن لا يورثهما شقاقا، وهو يحجم من الضرب التجاءً وعنفا، وليس هو بذلك أمرا إلهيا بذكره، بل ضابطا ربانيا لميزة فطرية قد يلتجؤ إليها وتستخدم بصورة تعسفية عنيفة لو لَم يحدها بذكرها.
إن في هذا البسط إظهارا لرتبة الضرب؛ موضعه، وحده، ويجيب كثيرا من التساؤلات المثارة، ويحقق أن الآية جاءت لتغيير بيئة المجتمع في اختلافها مع النساء من الأذى الجسدي من الرجل لها، إلى الحوار والبناء، والهجر كشكل من أشكال المقاطعة العصرية، وهما مظهران متقدمان وراقيان بالنسبة للبيئة المعاشة يومئذ، بل -بحكم ارتباطها بالفطرة- بالنسبة للبيئات جميعها في كل مكان وزمان..
أخيرا رسالة إلى صاحبي ذي الضحكة المجلجلة، القرآن الكريم كتاب إلهي، وثقتي جد عالية بمصدره، وهو كتاب واقعي، يضم داخله شرحه لمن أراد العدل ونظر فيه بعين منقطعة، أما النظر إليه من خلال غيره، لا حبا لفهمه، ولكن رغبة في تتبع خلل يشفي غليل معاد له، وتحميله تأويلات من اجتهد من البشر ممن سبقنا طلبا لإسقاطه، فلن يضر ذلك إلا أولئك أنفسهم، بما اطلع عليه منزل القرآن من غياب النية الصادقة في تناول كتابه، وما امتلأت به قلوب أولئك، فسبق الحكم يعمي البصر والبصير، فالبشر ممن سبقوا اجتهدوا أمرهم، وصدقوا نيتهم، وأخلصوا بحثهم بأدواتهم المتاحة، بينما قصر الأخيرون من أمثال صاحبي هذا أن يصدقوا النية صدقهم، ويبحثوا عن الحقيقة في كتاب لم يطرأ عليه تحريف منذ أربعة عشر قرنا، مع اختلاف أتباعه بسببٍ من غيره ومن أنفسهم، بينما تختلف الكتب الأخرى في نسخها في بضع مئات من السنين..
“ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر”..دعوة مفتوحة لك صاحبي بابتسامتك الصفراء..ولمن يليك من الناس دون وسيط… لعلك ترضى..
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
السبت
٢٤ ذو القعدة ١٤٤٠ هـ
٢٧ يوليو ٢٠١٩ م