تدور الدولة القُطرية اليوم ما بين مواثيق دولية واسعة على رأسها المواثيق المندرجة تحت مظلة «حقوق الإنسان»، والحقوق الفردية، وحقوق الأقليات، وما بين مُشكلات الدولة داخليا تحت مظلة المواطنة، فهناك انتماء للدولة ذاتها «المواطنة»، وهي الهوية الكبرى في الدولة القُطرية، وهناك انتماءات «هويات» أدنى في تشكلات دينية أو مذهبية أو عرقية أو لغوية أو مناطقية.
فجدلية هوية الشأن العام، والجوانب الإجرائية فيه، ومرتكزات نظام الدولة ودستورها من حيث الهوية والانتماء محل جدل في الدول المدنية التي لم تحدد مسارها، أو تحاول المواءمة بين المتطلبات الحقوقية الخارجية، وبين تشكلات الهويات الداخلية، خصوصا في الدول التي يغلب عليها هوية معينة (دين، مذهب، عرق)، أو يغلب عليها خط ديني أو اجتماعي معين لا تستطيع الانفكاك عنه.
ويزداد التناقض عندما تجد الدولة نفسها أمام نصوص تأريخية أصبحت مقدسة فوق النص الأول، وتوغلت تأريخيا في العديد من قضايا الحياة، ومنها ما يتعلق بشأن الدولة ذاتها، وما يتعلق بالعديد من إجراءات الشأن العام، كما تجد الدولة نفسها أمام رؤية توسّع من دائرة المطلق، وتضيِّق من دائرة الظرفي النسبي، وتقف عند حرفية النصوص، بعيدا عن مآلاتها وروحها، وتنظر إلى الآخر من الدائرة الضيقة، وتتعامل معه وفق الدائرة ذاتها.
فما مرجعية هوية الدولة؟ هذه من أكثر الجدليات التساؤلية في الدولة المدنية في الوطن العربي خصوصا، أمام عالم إنساني منفتح بشكل أكبر أمام الآخر، ويقترب من القيم الكبرى، وأمام عقل لا يزال يراوح مكانه، وينظر إلى هذا الانفتاح بتخوف شديد، وحذر مبالغ فيه.
لهذا تجد هذه الدول قل ما تحدد مسارها للإجابة عن هذا التساؤل، فهل هويتها إنسانية مطلقة، أم هي مندرجة تحت هوية الدين السائد في الدولة القُطرية؟ ومن ثم المذهب السائد «مذهب الحاكم أو الأغلبية» المتكأ عليه برؤيته التأريخية؛ لهذا نجد دساتير الدول هذه متناقضة، ورؤيتها ليست واضحة، مع إقرارها بمرجعية دين ما، وفق مذهب ما، إلا أنها في تطبيقاتها القانونية نجدها منفتحة في جوانب أخرى على الشأن الإنساني لمواثيق مرهونة بها، أكثر من كونها رؤية نبتت من الداخل. فهل المرجعية الإنسانية تتعارض مع مرجعية هوية الهوية؟ وأقصد بها الهوية الأغلب التي تسود بعد الهوية الأشمل أي الدولة، وبلا شك مع الرؤية الحالية لهوية الهوية وفق العقل الجمعي نجد العديد من التعارض، وعدم إمكانية الجمع، ولهذا تظهر ردات الفعل من هوية الهوية، تارة بتكفير الدولة، أو تكفير نظام الحكم، أو تكفير القانون المدني، أو التخفيف من درجة الكفر إلى درجة الولاء والبراء، أو الرغبة في عودة أنظمة تأريخية يرونها الأجدى في تحقيق هوية الهوية، وأن ترتفع إلى درجة الهوية الشاملة، لا أن تكون في درجة هوياتية أقل وأضعف.
هذه الجدلية لن تتوقف، وهذا التضارب مداه بعيد جدا، وستظل الدولة معلقة بين الهوية الشاملة، ومحاولة السير في عالم أكثر انفتاحا، وبين محاولة التقرب من هوية الهوية، لبقاء السلطة لفترة أطول تحت مظلة التزاوج بينهما.
والحل القريب التوسع في الدائرة التنويرية التي لا تستورد من الخارج، بل تولد من رحم هوية الهوية والهويات الأقل ذاتها، وهذا لا يتحقق إلا بالتوسع في مجال حريات الرأي والنقد من الداخل، وترك مجال أكبر للتدافع، حتى تتولد نظريات تفتح سعة أكبر في الجمع بين الهوية الشاملة، وهوية الهوية وما دونها.
إن التغيير الرأسي مع أهميته قد يكون قصير المدى من حيث التأثير، لارتباطه بمرحلة سياسية نفعية معينة، قد تتغير نفعيتها (البرجماتية) في وقت آخر، وتتحول إلى أصولية تلغي الآخر، لهذا لا بد من الاتجاه إلى التغيير الأفقي، الذي يولد وعيا جمعيا من داخل هوية الهوية ذاتها، ومساير للوعي الإنساني الأشمل، ويضع الأمور في مسارها الصحيح، وفق سنة التدافع وليس الصراع والتنافر.
بيد أننا ندرك أيضًا أن هوية الدولة ذاتها لا تشكل ذلك التخوف الكبير أمام عالم أكبر انفتاحا بشكل كبير على الاجتهاد الإنساني، واقترب من القيم الكبرى المحققة لكرامة الإنسان الفردانية، فتشبع العالم بها، ولا يمكن لهذا العقل أن يرهن بهويات تأريخية جامدة لا تقبل أن تعيش واقعها من حيث المبادئ الكبرى، بينما في الحداثة تتنعم بما وصل إليه النتاج الإنساني معرفيا وعلمويا، ومكر التأريخ الهيجلي واحد في تحقق نتاج هذا التدافع.
إلا أن التغيير أيضا سنني، ووجود تدافع طبيعي يبعد حلقة الصراع والعنف، ويولد من الفكرة وتناقضها ما ينفع الناس؛ لأن العقل اليوم يريد أن يعيش عالمه، وأن يحقق كرامة إنسانيته، وأن يشارك في صنع عالمه، وألا يتوقف عند حداثة الحضارة، وأن يكون مستهلكا، بل مشاركا في صنعها، وتوليد نظرياتها.
لقد كان في السابق عوالم تتشكل منها حضارات وفق إمبراطوريات قد تشترك زمنا، وتفترق مكانا، بيد أننا نعيش اليوم حضارة إنسانية واحدة عالمًا ومكانًا، في عالم واحد لا يفترق، وما الدول القُطرية إلا قبائل تلك العوالم، فإذا حققت سطوتها الإجرائية، إلا أنها لن تستطيع بحال من الأحوال أن تحد فضاء مواطنيها عن عالم الإنسان، ولن تستطيع أن تصنع حضارة قُطرية بمنأى عن حضارة الإنسان في عالم واحد مشترك اليوم، فالدولة القُطرية اليوم بهويتها الشاملة قُطريا لا تتجاوز كونها ثقافة ينتمي إليها مجموعة معينة من البشر لجوانب إجرائية كتشكلات القبيلة سابقا.
فالتأريخ اليوم لا يتشكل في جزئياته وفروعه، بل أصبح اليوم تشكله كليات تقترب من الكليات المشكلة للوجود الإنساني، فنحن أمام كتل من النظريات الكلية تلقي بثقلها في عالم الإنسان اليوم، لتدفع به إلى عالم أوسع، يجعله يعيش في تناقضات أمام هوياته، فإما أن يتنكر لها ويرفضها ليعيش واقعه، وإما أن يتعصب لها ويتقوقع حولها لأسباب لاهوتية تأريخية أو مجتمعية، وهذا أقل، وإما أن يترك للناس التدافع الطبيعي لترقى هذه الهويات من تأريخية الماضي إلى عالم الإنسان، وأن ينظر إلى هوياته برؤية ناقدة أوسع، لا أن ينظر إلى العالم برؤية ضيقة أقصر، فإن تشكلت هذه الرؤية الواسعة في هويات وانتماءات متعددة، ستؤثر تلقائيا على هوية الهوية، وبذاتها ستؤثر على هوية الدولة القُطرية الواحدة.
هذا التدافع الطبيعي لن يلغي هذه الهويات، أو يرغمها على شيء تخشى من الوصول إليه، بقدر ما سيسهم في تهذيبها؛ لأن التهذيب لن يوجد من دون تدافع، والتدافع لن يثمر من دون حرية واسعة تنطلق من الإيمان بها داخليا، ويحقق لها الحماية إجرائيا خارجيا، فإن رفضت الهويات تحقق ذلك تجاوزها الزمان؛ لأنها وإن كان لا تتحرك فكرا، إلا أنها متحركة من حيث السننية المجتمعية والحضارية، فقد تتصور بقاءها بقوة السلطة لأنها في درجة هوية الهوية، إلا أن البقاء للأصلح، والبقاء للأصلح لا يخرج عن إطار السننية، وبه يكسب الأصلح قوته، فكلما تهذبت الهويات حضاريا وسننيا بقيت وتطورت، وإلا ستهذب سننيا من الخارج، وهي سنة واحدة لا تتغير.
كما أن هذا التدافع الطبيعي أيضا يجعل الشأن العام متجاوزا من هيمنة هوية الهوية إلى هوية الإنسان الواحد، محققًا الكرامة الفردانية لكل إنسان في الدولة القُطرية، مواطنًا أو مقيمًا، كما يحقق بينهم المساواة والعدل، وأن يوسع بينهم الحريات، ويضيق من الاستبداد، بحيث يشتغل الشأن العام على حماية الإنسان، ورقيه معرفيًا وصحيًا وإنسانيًا، وأن يحقق الشراك معه في بناء وطنه ورقيه حضاريا، مساهما في منفعة الحضارة الإنسانية ككل، فالشأن العام ينطلق من الإنسان إلى الهوية وليس العكس، حتى تتهذب الهوية وتكون خادمة أيضًا لهذا الإنسان، ومساهمة في رقيه ورفعته، وتحقيق كرامته وإنسانية.