تَسْرِيدُ الأرض.. الأرض بوصفها سردًا:
عبدالله حبيب –
أنهيت حلقة الأسبوع الفائت من مادة «أنساغ» هذه بالإشارة إلى تضعضع نوعية المؤثرات الصوتيَّة في فيلم «الأرض الصفراء» لِتشن كايغ. والحقيقة أنه يُحمَدُ لمخرج الفيلم اعترافه أنه لم يكن متمكنًا من تقنية مزج الأصوات في المرحلة ما بعد الإنتاجية للفيلم (وأظن أنه يمكن لي أن أتساءل هنا: ترى ما جدوى وجود مهندس الصوت إذًا؟. وقد يقول قائل إن هذه مشكلة تعاني منها أفلام «الجيل الخامس» على وجه العموم (1). ومع ذلك فعلينا تذكر أن بعض المشتغلين السينمائيين في العالم الثالث يصرون على فضيلة التأتي على تأثيرات وقيم جماليَّة معينة من خلال عدم النضج التقني على طريقة «ربَّ ضارة نافعة»، كما في حالة السينمائي الكوبي خوليو جارسيا إسبينوزا Julio Garcia Espinosa في ما يسميه «السينما المنقوصة» (imperfect cinema) (2).
وعودة إلى الفيلم نفسه، فهو مبني على مقال لِكي لان Ke Lan (1920-2006) بعنوان «صدى في الوادي العميق» حول أحداث وقعت في منطقة شمال شانخي الصينية في بداية الحرب الصينو-يابانية (1937-1945). والحقيقة فإن الفيلم في اتكائه مصدريًّا على مقالة تم تحويلها إلى سيناريو سينمائي إنما يعكس نزعة تجريبيَّة غير عاديَّة وقابلة للتطوير لدى سينمائيي «الجيل الخامس» في نبذ المصادر المألوفة والتقليدية للأفلام السينمائية، كالروايات، والمسرحيات، والقصص الشعبية أو الأدبية المكتوبة. إذًا، ففي السرد السينمائي، يُكَلَّف جندي صيني من جيش الخط الثامن في ربيع عام 1939 بالسفر عبر منطقة شانبي الواقعة في الجزء الشمالي من مقاطعة شانخي الشمالية الغربية، وذلك في مهمة لجمع وتدوين الأغاني الفولكلوريَّة. وغرض جمع هذه الأغاني هو تبنيها، وتحويرها، والتنويع على ألحانها وإيقاعاتها، وتطويعها في الدعاية العسكرية في الحرب ضد اليابان. أظن أنه لن تفوتني هنا الإشارة ـ ولو سريعًا ـ إلى أن من المثير للارتباك أننا نجد أن ممارسة جمع (مصادرة، بالأحرى) الأغاني الفلكلوريَّة في الصين الشيوعيَّة، وإعادة توجيهها لخدمة اعتبارات براغماتيَّة طارئة، إنما ترقى إلى مصادرة وتحوير الذاكرة الشعبيَّة، وهذه ممارسة كانت -للمفارقة- موجودة في تقاليد الحقبة الإقطاعيَّة التي جاءت المرحلة الاشتراكية لتجاوزها (3).
عندما يصل الجندي إلى المنطقة التي أرسلته إليها قيادته يصادف عرسًا فينضم إلى الموكب الاحتفالي ويسير معه حتى الوصول إلى قرية جبلية فقيرة، وهناك يدوِّن الجندي الأغاني والأهازيج التي سمعها، فهذا جزء من المهمة التي جاء لأجلها أصلًا، والتي، لكي يتمها فإنه يطلب الإذن بالبقاء مع قروي يعيش حالة ضنك حقيقي في بيته الكهفي المتواضع. هذا القروي الأرمل، وهو في السابعة والأربعين من العمر بإفادته، يسكن مع ابنته ذات الأربع عشرة سنة، وهي صبيَّة يبوح لنا السرد السينمائي بأن لديها حب استطلاع وفضولًا، لكنها في الوقت نفسه منطوية على نفسها وكتوم. هذا، ويقاسمها العيش صبي في نحو الثانية عشر من العمر، وهو صموت بدوره ومنسحب إلى نفسه خاصة وأن لديه مشكلة في القدرة على الكلام الطليق. وعبر توالي الأحداث (وهي بطيئة بالمعنى الإيجابي عمومًا) يُخبِر الجندي العائلة عن الإصلاحات الاجتماعية الراديكاليَّة التي تحدث في منطقة ينان، وهي مقر قيادة جيش الخط الثامن (وثنائيَّة الجنوب «المتقدم»/ الشمال «المتخلف» ترد بصورة صريحة عدة مرات في الفيلم كما هو الحال في مداولات التاريخ الصيني الحديث). ونظرًا لأن الصبيَّة (الشماليَّة) كانت تستعد مكرَهة للزواج قريبًا من فلاح عجوز حسب التقاليد الريفية السائدة هناك فإنها تستمع بشغف وفضول إلى الجندي وهو يتحدث عن تعليم المرأة في الجنوب، والعمل في الجيش على قدم المساواة مع رفاقها من الذكور، وحريتها في تقرير شأن زواجها من دون تدخل أو إكراه من أحد، وذلك من دون أن يعلم هذا عن زواجها الوشيك. بهذا تنشأ علاقة ود بين الصبية والصبي من ناحية، والجندي من ناحية أخرى، ويقوم الأخير بمساعدة العائلة في الأعمال المنزلية، والحراثة، والزراعة في الحقل، والرعي.
بعد أن يقضي مدة مع العائلة في القرية يعلن الجندي عن مغادرته، فتستعطفه الصبيَّة أن يأخذها معه من دون أن تخبره عن مأساة زواجها القريب. بيد أن الجندي يرد بأنه كادر عسكري وحزبي منضبط يعمل «وفق القواعد» التي تمنعه من اصطحابها معه، ولكنه يعدها بأنه سيعود إلى القرية قريبًا بعد أن يحصل على الموافقات الضرورية لانضمامها إلى الجيش الشعبي. غير أن الصبيَّة تضمر خطة أخرى، وهي أن تهرب من القرية إلى المقر الحزبي والعسكري في ينان وذلك بأن تقطع النهر الأصفر في قارب صغير وحيدة ومعتمدة على نفسها، ولكن النهر يغرقها في مياهه. أما الجندي فإنه يعود إلى القرية صيفًا في أثناء أداء القرويين طقوسًا استسقائيَّة واستغراقيَّة جماعية طلبًا للمطر، لكن الشخص الوحيد الذي يلحظ وجوده هو الصبي ذو الثانية عشر (أخو الصبيَّة التي لا يعلم الجندي عن غرقها)، فيحاول الوصول إليه بالسَّير العصيِّ في الاتجاه المضاد لاتجاه موجة الفلاحين البشرية العاتية (للمادة بقية في الأربعاء القادم).