سهام سالم
بعد يومٍ مضنٍ من العمل تهالكت فوق السرير وظللت كعادتي أحدق في سقف الغرفة بصمت، ولكن أحدٌ ما فتح الباب، وشعرت برأس صغير يطل على الغرفة ولم ألتفت، وفجأة رأيت وجه الصغيرة محدقا في صفحة وجهي حاجبا عني سقف الغرفة الأبيض، وبدأت كلماتها ترشقني بسرعة وغضب حتى أنني لم أفهم من صراخها شيئًا.
جلست بسرعة وحاولت تركيب جملة مفهومة مما تحاول قوله، ففهمت أنها قد وجدت قطعة نقدية في أرضية غرفتي، والتي كان يجب أن تكون في “الحصالة” لأجل الأطفال الجوعى، وقد أخذ صوتها يعلو حانقا وهي تشرح لي أن النقود المكدسة في “الحصالة” إنما هي لكل وطن جائع، لأطفاله، للجوع الفائض من أعينهم، والموت المكدس في طرقاتهم.
وهي طفلة في الرابعة، لا يتعدى مفهومها للجوع غير تلك القرصة العابرة التي تقلص معدتها الصغيرة، ورغم كل هذا فهي تحصي بين فترة وأخرى أعداد تلك القطع النقدية وتعيد إدخالها في الحصالة، رغم أنها تخطئ دائما بعد العشرة، ولهذا تعيد العد من الواحد مرة أخرى، فتحسب النقود عشرة عشرة حتى يتشدق الفخر من عينيها وهي ترى عشراتها أرقامها خيالية تصطف أمامها كبنيان مرصوص وكلها مستعدة لأن تحارب جوع أطفال لا تعرفهم، يعيشون في مكان يفترض أن يكون سعيدا ويعيش بين أنقاض الحرب.
أما أنا، فقد تعديت العشرين بعامين، أي أنني عشت، وتعلمت، وقرأت، وفهمت، ووعيت، وجربت الجوع، ولأكون أكثر دقة سأقول: “أظن بأنني جربت الجوع”، ولكنني لم أغضب كغضب الطفلة حين تجاهلتُ قيمة القطعة النقدية وهي منسية في أرضية غرفتي منذ أشهر. وفي الحقيقة لم أرها قبل هذه اللحظة، ولم أتساءل يوما عم يمكن أن تفعله قطعة نقدية زهيدة في حياة جائع. إلا أنني دُهِشتُ من الأرقام الخيالية التي توفرها شركات الطيران عندما تنقص حبة زيتون واحدة من قائمة الطعام. ولطالما ناصرتُ “فلسفة الكايزن” اليابانية التي تركز على التحسين المستمر والأثر العظيم لوجود الأشياء الصغيرة. وقد قرأت كتابا عن الجوع، وضحكت بين صفحاته حين فهمت أن الجوع كان حقا كافرًا، وأن الأمر لم يكن محض مجاز.
في الحقيقة وأنا أكتب أشعر بأنني أتضاءل، شيء ما ينقص العالم حين لا نشعر، كما لو أن الشعور بآلام الآخرين هو القطعة الوحيدة الناقصة لكي نفتح آذان العالم.
إن واحدا من بين تسعة أشخاص حول العالم يعانون من الجوع. فإن جاعت بطونهم، فلا تجوعنّ قلوبكم. وإن طفلٌ حمل همّ طفلا آخر، فمن العار ألا نراقب همومنا.
*لوحة بيكاسو راسما الجوع الشديد والفقر المدقع وفقدان الأمل… .
#عاشق_عمان