التصريحات السياسية قد تكشف مواقف وسياسات معيَّنة، لا سيما عندما يقصد منها تشخيص العلاقات الدولية وفقا لمفهوم بعض الأطرافالدولية ونظرتها لتلك العلاقات مع الدول والشعوب الأخرى، وتقدم مؤشرات على أي نمط تقوم تلك العلاقات، كما تعبِّر التصريحات أحيانا عماتفتقره من قِيَم أخلاقية وما تفتقده من أُسُس حضارية. وقد قال أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ : (تَكَلّمُوا تُعْرَفُوا، فَإنَّالمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ) وقد تتفق هذه المقولة أحيانا مع الفكر السياسي والعلاقات الدولية لتكشف الأُسس التي بُنيت عليها تلك العلاقاتالدولية، وتبرز مستوى الخلل في الفكر الإنساني لدى بعض الأمم عندما تصدر من قِبل قيادات محسوبة في حركة السياسة الدولية.
كلمة جوزيب بوريل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية الإسباني التي ألقاها الأسبوع الماضي خلالافتتاح الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية، حيث قال: “إن أوروبا حديقة.. لقد بنينا حديقة أفضل مزيج من الحرية السياسية والرخاءالاقتصادي والترابط الاجتماعي استطاعت البشرية أن تبنيه، لكن بقية العالم ليس حديقة تماما، بقية العالم أغلب بقية العالم هو أدغال”. وأضاف: “الأدغال يمكن أن تغزو الحديقة، وعلى البستانيين أن يتولوا أمرها، لكنهم لن يحموا الحديقة ببناء الأسوار، حديقة صغيرة جميلةمحاطة بأسوار عالية لمنع الأدغال لن تكون حلًّا، لأن الأدغال لديها قدرة هائلة على النمو، والأسوار مهما كانت عالية لن تتمكن من حمايةالحديقة، على البستانيين أن يذهبوا للأدغال، وعلى الأوروبيين أن يكونوا أكثر انخراطا مع بقية العالم، وإلا فإن بقية العالم سوف تغزوأوروبا”. وفيما يتعلق بالعملية الروسية في أوكرانيا أضاف بوريل: “أي هجوم نووي على أوكرانيا سيولد ردا، ليس ردا نوويا بل هو رد قويعسكري من شأنه أن يقضي على الجيش الروسي”.. هذه التصريحات المستفزة لمسؤول السياسة الخارجية الأوروبية أثارت جدلا واسعاوردود أفعال دولية متعددة، فقد استنكرت دولة الإمارات العربية المتحدة التصريحات التي أدلى بها جوزيب بوريل، مشيرة إلى أن أيةتصريحات من هذا النوع غير مناسبة وتتسم بالعنصرية، وفي بيان صادر عن وزارة الخارجية والتعاون الدولي، أعربت الوزارة عن رفضهالتصريحات بوريل ووصفتها بالعنصرية، مشيرة إلى أنها تُسهم في تفاقم التعصب والتمييز على المستوى العالمي، كما استدعت وزارةالخارجية والتعاون الدولي الإماراتية القائم بأعمال رئيس بعثة الاتحاد الأوروبي وطُلب من مكتب الممثل الأعلى تقديم تفسير مكتوب بشأنتصريحات بوريل المؤذية والعنصرية. وفي إيران أكد المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني: “إنَّ عبارات الحديقة والغابة تعود إلىالذهنية الاستعمارية المرفوضة والتي تعطي للغرب حق الاعتداء والاحتلال”. كما أشار كنعاني إلى أنّ “العالم المتعدد الأقطاب خلف البابوعلى الاتحاد الأوروبي تقبُّل الوقائع وإلا سيواصل المسار نحو الزوال”، كذلك ردَّت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا: إنَّ“أوروبا أنشأت تلك الحديقة من خلال النهب البربري لـ”الغابة”، ولم يكن بوريل ليصوغها بشكلٍ أفضل: النظام الأكثر ازدهارًا في العالم،الذي تم إنشاؤه في أوروبا، والذي ترعاه جذور في المستعمرات التي اضطهدوها بلا رحمة”.
بالمقابل وردًّا على تلك الانتقادات الدولية التي أعقبت تصريحاته قال بوريل: أنا بأفضل حال، لِمَ لا؟” وأضاف “كل أسبوع يحمل الكثير منالتوتر، ولذلك من وقت لآخر ينفجر شيء ما أمام الرأي العام”. وفي هذا السياق أيضًا قالت المتحدثة باسم المفوضية الأوروبية: “إن رئيسةالمفوضية أورسولا فون دير لاين لا تزال تثق ببوريل” مما يؤكد أن مواقف المسؤولين بالاتحاد الأوروبي لم تخرج عن هذا الإطار، وهي النظرةالاستعلائية التي تُمثِّل العقلية الاستعمارية الأوروبية كما عبَّر عنها كنعاني المتحدث باسم الخارجية الإيرانية.
المؤسف في مثل هذه التصريحات أن تكون نهجا في التعامل بين الأمم والشعوب، وتتكشف عورتها ويبين عوارها عندما تتأزم المواقف لتظهرحقيقة الأصول والجذور التي تنحدر منها تلك الثقافات، وهو ـ بلا شك ـ تعبير عن ثقافة سائدة لمجتمع النخبة السياسية في أوروبا التي ربماما زالت تتذكر حقبة الاستعمار، ولم تغب عن مخيلتها تلك الحقبة التي مارست فيها الدول الاستعمارية مختلف أنواع التنكيل والفاشية ضدشعوب الدول المستعمرة أقلها رمي أبناء الأفارقة السود في المحيط أثناء هيجان البحر؛ وذلك لتخفيف حمولة المراكب وسفن الرقيق التيتنقلهم إلى الدول الاستعمارية في تلك الحقبة المظلمة. ولن نفتش في تاريخ هذه العلاقة منذ محاكم التفتيش وحتى وقت قريب، وما حدث فيالعراق من دمار فرضه منطق القوة وما حدث من انتهاكات في سجن أبو غريب وجوانتانامو وغيرها حول العالم. هذا هو منطق الحديقةوالأدغال الذي يريد أن يصوغه بوريل في المفهوم الأوروبي للعلاقات الدولية.
خميس بن عبيد القطيطي