في العام ١٩٩١م أُتيحت لي فرصة المشاركة في برنامج تعريفي عن اليابان بترشيح من السفارة اليابانية في مسقط..وهذا البرنامج يعد من أشهر البرامج الصحفية التي تندرج ضمن جهود الحكومة اليابانية لتعريف الصحفيين المشاركين بالصورة الحقيقية لليابان كدولة ناهضة بقوة على الرغم من الظروف القاسية والأليمة التي مرت بها بعد تدمير بنيتها التحتيّة في الأحداثالمعروفة بـ “ناجازاكي وهيروشيما” واللتين كانتا بمثابة يقظة وهبّة حقيقية لشعب نجح في بناء مستقبله دون الالتفات لتبعات الماضي وقيوده.
أعترف أنني أعجبت مثل غيري من الزملاء الصحفيين بهذا البلد وبنظامه الذي أصبح من أفضل الأنظمة العالمية في مجال البناء والتعمير وتطور هائل في التنكولوجيا والثروة الصناعية الرابعة وعالم الانترنت ..
النظام الياباني حسب مشاهداتي ورصد مايمكن رصده مختلف ضمنيًا عن كل الأنظمة في معظم بقاع الدنيا.
في العاصمة طوكيو ومنذ اللحظة الأولى تعرفت على الزملاء الصحفيين القاصدين لهذا البرنامج. كان عددنا 15 صحفيًا من الدول العربية والشرق الأوسط جمعتهم طوكيو، وعلّمتهم أسمى معاني الحب والإخلاص وأصبحت بعدها محل افتخار وتقدير
مازالت علاقتي ببعض الزملاء الصحفيين ممتدة واذكر من هؤلاء الزملاء الاستاذ احمد شحاتة الصحفي المصري الذي اطلقنا عليه فاكهة البرنامج ، وما زالت علاقته به مستمرة ويشرف حاليا على الموقع الالكتروني سويفت نيوز .
البرنامج التعريفي تضمّن فعاليات ومحاضرات متنوعة عن النظام الديمقراطي الياباني،والسياسات التي تنتهجها الحكومة اليابانية، وعن حرية الصحافة والإعلام وغيرها من الجلسات الحوارية التي امتدت لقرابة 45 يومًا، ولم تكن مجرد دورة تدريبية أو ورشة عمل ومناسبة لاكتساب خبرات في مجال الصحافة والإعلام فقط، وإنّما كانت مناسبة لسبر أغوار المُجتمع الياباني الذي رسم خارطة الطريق للنهوض بمستوى البلد ليكون واحدًا من أفضل دول العالم حسب “ثقافة الساموراي”التي تغرس في الشعب ثقافة الروح القتالية والانتصار والابتكار وعدم الالتفات إلى الخلف في سبيل تحقيق النجاح.
المجتمع الياباني”الذي تعرّفت عليه يحمل الود والطيبة، وأهم صفة يتحلى بها المواطن الياباني هي الإتقان والإخلاص في العمل،وهما قيمتان حث عليهما الدين الإسلامي الحنيف، لكننا للأسف الشديد لم نعد نلمسهما في مجتمعاتنا بالشكل المطلوب دينيا أو بما يحاكي على الأقل ما لمسناه في عدد من المدن اليابانية التي زرناها طوال فترة إقامتنا باليابان..
في هيروشيما كنت أمام مفارقة عجيبة، وهي الذهاب لمشاهدة المتحف الذي بُني لجمع ما تبقى من مخلفات القنبلة النووية التي محت هذه البلدة من خارطة العالم.. توقفت مليًا وأنا أتابع مقتنيات المتحف لاستلهم إرادة هذا الشعب بأن تكون انطلاقته قوية لتجاوز الخلافات والعمل على إحلال بمبادئ الحب وجودة العمل التي اعتبرت اليابان نفسها معنية بنشرها في أنحاء الكون.
عندما ننظر إلى اليابان الآن نجدها قد تخطت كل التحديات وعملت على تحقيق رؤيتها لتكون أقوى دولة من الناحية الاقتصادية؛ والغريب في الأمر بل والمحير في نفس الوقت تخطط لغزو العالم اقتصاديا وهي لا تملك المقومات الأساسية ولا تملك مصادر الطاقة ولا تملك أية موارد طبيعيّة تعتمد عليها في الاقتصاد، ومع ذلك أصبحت ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بل تستورد كل شيء وتقوم بإعادة تصديره بأضعاف مضاعفة، فكل ما نراه في اليابان من تطوّر في التكنولوجيا والبنية والصناعة والسياحة والزراعة هي في الأساس مواد وخامات مستوردة يتم إعادة صناعتها لتكون مصدردخل كبير للحكومة.
أيضا من المبادئ الجميلة التي حرصت اليابان على استغلالها اقتصاديًا واجتماعيًا -على سبيل المثال لا الحصر- الاهتمام بنظافة البلاد، وتجميع القمامة وإعادة تدويرها واستغلالها من كافة النواحي، فمن بين مظاهر اهتمام اليابان بالقمامة أنّ الأطفال في المدارس يأخذون كل يوم ربع ساعة قبل بداية اليوم الدراسي في تنظيف مدرستهم وفصلهم ليتربى الجيل على أهميّة النظافة. علاوة على أن عامل النظافة في اليابان يطلق عليه مهندس صحي، ويخضع للعديد من الاختبارات قبل الوظيفة، فتجميع القمامة في اليابان وإعادة تصنيعها وتدويرها يعد أحد أكبر مصادر الدخل فقد تمكّن اليابانيون من تحويل مخلفات الزبالة إلى طاقة كهربائية.
التجربة اليابانية تستحق أن يُستفاد منها خاصة دولنا الخليجية التي تملك كل المقومات غير المستغلة.
حمود الطوقي
#عاشق_عمان