في أتون ما تعيشه الأمة من تجاذبات، ورغم محاولة الذهن الصفاء لمقدم السنة الدراسية الجديدة، إلا أنه لم يستطع كبح جماحه وهو يُسقَطُ بين يديه حديث البيعة والخلافة في بعض المجموعات الكريمة، مع تأويل يربط الأولى بالأخيرة ربطا مصيريا..
الحديث ( من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) يتكلم عن البيعة
والتأويل يتكلم عن الخلافة، وينطلق منها، ويوظف الحديث في تثبيتها والدعوة لها، وعدها شرعا واجبا، فأصبحت البيعة متعلقة بالخلافة حصرا.
وبين هذه وتلك بون شاسع كبير ..
فالأول الحديث عام يتماهى مع آيات الله العزيز، والتي فيها ظاهر وجود الدولات المتعددة المؤمنة في ذات الزمان ( لينظر في آيات القتال منها ” وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا” ” فإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن” )، فمنها ننظر الى تعدد المرجعية، وتعدد الحكومات، ولَم يكن فيها دعوة لما يعرف بالخلافة في سياق عرضها.
الخلافة إنما أتت اجتهادا –اسما ومعنى– بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي مات دون أن يكون منه توجيه لنوع الدولة؛ خلافةً أم مملكة أم سلطنة، ولا للخليفة، ووافق ذلكم التوجهَ في قيام الخلافة مناسبةُ الأمة، التي تركها الرسول صلى الله عليه وسلم جديدةَ العهد بالإسلام الصادق، فتكونت من تلك الرقعة الجغرافية ما يسمى بالخلافة لمناسبة الواقع وحداثته، وليس لوجوبها كوحدة أو دولة واحدة شرعا، ولو كانت للزم المصطفى عليه السلام تسييجُ ذلك بتعيين آلية الانتقال السياسي ومنهجيته، بل وتعيين الخليفة، وهو ما لم يكن.
ما زال المصطفى يبعث رسائله داعيا للإسلام دون إصراره على الشكل السياسي للدولة، لذلك كان مقرا لشكل الدولة، قيصرية أو ملكية، ما أسلمت، وهي تتماشى مع دعوة الرسل من قبله، كسليمان في دعوته لملكة سبإ بالإسلام، وليس بالتخلي عن الملك أو تسليمه له، والإسلام لحمة دون حاجة لهيكل سياسي جامع، وما زالت عُمان مملكة بذلك إلى وفاة المصطفى عليه السلام، ولَم يتغير في الهرم السياسي شيء، إنما تغير الهرم العقائدي والديني.
لذلك فأول التلبيس هو زعم الخلافة –دولة ووحدة واحدة بين المسلمين– أنها شرع، وواجب في عنق الأفراد كما البيعة، فمن لم ينشأ في خلافة أو إمامة حدَّث بها نفسه وطلبها، ومن لم يطلبها مات ميتة جاهلية، لأنهما عندهم متلازمان بسبب تأويل ما مر، فوُضعت لذلك الأحاديث، أو وضع تأويلها، وتم مقابلةُ أحاديثَ بها وتطويعُها، كالذي نحن بصدده، حديث البيعة.
فإن ثبت ذلك فحديث البيعة معني بلزوم الدولة، دولة المسلمين العادلة، كانت في شكل إمبراطورية أو خلافة أو إمامة أو مملكة أو سلطنة أو جمهورية، وهي تعالج وتضبط انفلات الأفراد والمجموعات وانشقاقها، وكيٌّ لحواضنها المحتملة كالقبلية والعصبية، وتقنين لها، والتي غالبا ما تكون بلاءً على الدول وعلى المجتمعات متى التفتْ على الدولة والمركزية، وأعلت مصلحتها على مصلحتها، ومبعثٌ للشر كبير، والذي يبدأ عادة بتمرد فردي على القواعد، وتخلقُ نسيجا مسخا غير مركزي، يستفزه اليسير، ويُتنادى فيه بالجاهلية والعصبية والحمية، وتنزلق به الجماعة لحروب على بعران وثيران وخيول، وعلى كل عجل تعبده هذه الجماعات في ممارستها ونداءاتها، عجلِ العنصر، وعجلِ القبيلة، وعجل المذهب، وعجل الخصومات المورثة، فالبيعة تحكم –بذلك– الفردَ والجهة ضمن الدولة على حد سواء، وتحد النزعة التمردية لهما، وهي متحصلة لرأس السلطة وقيادتها، كان خليفة أو سلطانا أو إمبراطورا أو رئيس جمهورية… والتأويلات المقيدة إنما جاءت نقلا عن السابقين بعضهم عن بعض، كما هو أغلب القضايا العامة، ودعوةً للدولة الأولى المركزية – الخلافة– ولحفظها يومئذ!
إن مراجعة ذلك تحت ظل القرآن وفعل الرسول والرسل قبله في رسائله وعند موته أوجب، فالبيعة بذلك تلقائية قائمة بقيام الدولة، ومتحصلة طبيعةً من أفرادها بمجرد انتقال الحكم، والتحذير لأولئك المتمردين بغير وجه حق، والفاتنين الأمم والشعوب.. ومشاهدُ البيعة من العوام في بعض الجهات اليوم مشاهدُ متكلفة، وهي (أي البيعة المباشرة) أقرب لفرض الكفاية منها لفرض العين، لتعذر الأخير وبعده عن الجانب العملي والممكن بالنسبة لسواد الناس، فبمجرد وجود الإنسان ضمن الدولة وضمن حكومتها ومركزيتها فهي منه بيعة، وإن لم ينطق بها، إلا من كان مرجعا وعليه في رقاب الآخرين بيعة، فهذا تكون بيعته العلنية واجبة عليه عينا، حتى تتحلل بيعة الآخرين من رقبته، وتنتقل للدولة في خليفتها، أو إمامها، أو سلطانها، أو رئيس جمهوريتها.
إن ما يدل على كون الخلافة أو الإمامة ككيان سياسي للدولة شكلا عارضا، يجوز قيامه، وقد يستحب، ولكنه غير واجب –بحيث من لم يسعَ لقيامه أو يحدث نفسه عد موزورا–، إن مما يدل على كون الخلافة خيارا للحكم ضمن خيارات جائزة أخرى فوق ما قدمنا من عدم تعيين المصطفى لآلية حكم، ولا لخليفة، هو غياب هذا الشكل السياسي الموحد كما شاءه الأولون منذ السقيفة، وتفرقُ الخلافة إلى خلافات ودول عدة لمدد بعيدة، بل هي المدة الغالبة في الخلافة المركزية، فخلافة الأندلس تمت ثمانية قرون إلى جانب خلافات ودول أخرى في باقي العالم الإسلامي، فضلا عن دول اليوم والأمس، وما كان هذا حاله لا يقوى تأويلُ الوجوب فيه، وربطُ البيعة وتحديدُها بشكل الخلافة الأولى، وحملُ رقاب الناس عليها –وزرا وطاعة– هو ربط متكلف، أسقطه المَلَوان– الليل والنهار– وتعاقبهما، والبيعة وحديثها أوسع من شكل الخلافة الأولى (الرقعة الجغرافية الواحدة لبلاد المسلمين بالخليفة الواحد)، لتشمل كل نظام دولة قائم، ملكيا أو جمهوريا، وبذلك يدعو حديث البيعة إلى المدنية الحديثة، عن طريق جعل الحكومة موحدة ومركزية، والبعد عن دولة التحزب والجماعات، والتي تمتلك مقومات الدولة المستقلة الاقتصادية والعسكرية ضمن الدولة الكبرى، وذلك تجنبا لوقوع الصدام، وحفظاً للإنسان فيها… وفِي ممالك الأندلس ونهاية الدولة بيان لمعنى البيعة المعنية والواجبة.
ينتهي التأويل بوجوب الخلافة (الدولة)، ووجوب السعي لقيامها، ولو حديثاً في النفس، إلى خلخلة الدول في أشكالها الأخرى، وإيجادِ بؤر وخلايا نائمة، بزعم طلب الخلافة، تعمل على زعزعة الأمن متى سنحت لها الفرص، وهو شكل من أشكال الغسيل الفكري، حيث يبقى الإنسان رهين طلب حالم، وآيدولوجية غير مؤسسة، لا يعرف منتهاها، ويهمل واقعا جميلا يحتاج لتقويته وإصلاحه عبر البيعة له ولدولته، وقد رأينا ونرى كيف فعلت تلكم الخلايا النائمة بعد تنشيطها من مآسي، وكيف فتكت بالإنسان، وأذهبت بدول وحضارات ومدنية، وما العراق وسوريا وغيرهما عنا ببعيد.
إن كل ذلك التكلف والتزمت خلافُ آياتٍ عظيمات عامات منها “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ” و ” ماجعل الله عليكم في الدين من حرج“، وغيرِها مما يدعو الى عدم الكلفة في الدين، وإلى عموم الاستقرار، متى كان الأمان وكانت العافية… وعدم الكلفة تستدعي شهادة الله في عدم تضييع الإيمان، “وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرؤوف رحيم“، فمن لم يضيع إيمان من صلى إلى القدس، ولَم يضيع صلاته المنبثقة من ذلك الإيمان، لن يضيع إيمان من طلب العدالة، ولبس الأمان، واعتمر السلام، وبايع وطنه وقيادته، وجعل ذلك دينه، ما كان الوطن، وما كان شكله السياسي؛ ملكية، أو خلافة، أو إمامة، أو سلطنة، أو جمهورية، وأيَّ شكل آخر يحقق الاستقرار… فكيف بعدها يقال؛ إن على مثل هذا وزرا؟! أو إنه مات ميتة جاهلية؟!
أخيرا فإن من مبادىء هذا الدين العظيمة هو موافقة ظاهرِ المرء باطنَه، وذمَّ التباين بينهما، لا سيما في الولاء بين الظاهر والباطن (الظاهر لجهة، والباطن لأخرى)، فالنفاق مذموم، وليس دينا للمسلم “أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم“…ولا ينبغي تحميل القلوب فوق ما تتحمل…والمؤمن بعيد عن مخالفة ظاهره باطنَه، إلا ما اضطر إليه، وكان تحت طائلة التهديد، فإن أمن فلا مفر من إجابة داعي الله ” يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين“.. والسلم من أركانه صفاء البواطن، ونقاء السرائر، والنصح في الظاهر، والولاء له بالولاء لدولته وقيادته العادلة، بطناً وظهراً.
عبدالحميد بن حميد بن عبدالله الجامعي
الثلاثاء
١٩ ذو الحجة ١٤٤٠هـ
٢٠ اغسطس ٢٠١٩ م