القراءة حياة متعددة، ومشترك إنساني نبيل، وإعادة هندسة متجددة للواقع، إنها البحث عن الحقيقة بغية الوصول إلى الحق، وإدراك الفضل، وتحقيق الجودة، وبلوغ الأهداف، وسمو الغايات، لذلك فالتنافس فيها صناعة ذاتية ورغبة فطرية وإحساس بالمسؤولية، تستدعي المزيد من قوة الإرادة وسمو العزيمة والحرص واستدامة السلوك، فهي علامة فارقة في حياة الأفراد والمجتمعات، ودليل تحضرها، والحديث عنها اليوم لم يعد ترفا فكريا، أو موضة شخصية أو حالة وقتية أو سلوكا ظرفيا أو متطلبا أبرزته طبيعة التحولات التي يعيشها إنسان اليوم، فإذا كانت المعرفة بما تحمله من أفكار وخبرات وتجارب ورصيد ثقافي وفكري ناضج القيمة التنافسية في عالم سريع التغير، فهي مورد اقتصادي واستثماري تفوق ما تقدمه الماديات والمحسوسات والعقارات والأرصدة المالية، لذلك شكل اقتصاد المعرفة اليوم تحديا على الدول المعتمدة في اقتصاداتها على النفط في قدرتها على المنافسة وتحقيق ثروات هائلة وموازنات ضخمة، وما من شك أن القراءة أحد مظاهر المعرفة، ونواتجها، وهي مسار أصيل لبناء الثقافة وترسيخ الوعي وتأطير الفهم وتصحيح المفاهيم ومعالجة أدوات الواقع، وعندما تنمو في فقه الإنسان وتتمكن في ذاته وتسمو في قناعاته، فإنها بذلك تنطبع على شخصيته وتبرز في سماته وخصائصه، لتتولد منها شخصية قيادية واعية مثقفة تتسم بالحكمة والفهم والتحليل والرصانة والتشخيص الذي يعينها على اتخاذ القرار وإدارة المواقف والحدس بالتوقعات واستشراف المستقبل والفراسة في فهم الشخصيات، والحسم لكثير من القضايا الفكرية وترجيح الرأي المناسب الذي يحفظ للمجتمع كيانه وللدولة هيبتها وللقرار مكانته بين المخاطبين. ولما كان لهذه القراءة نواتج قادمة في تكوين الشخصية وصناعة الفكر الرصين؛ فإن وجود هذه السمات في شخصية المسؤول أولوية لا يجب التنازل عنها، ومعيار نوعي يجب الاستناد إليه في اختيار القيادات التي تحفظ الحقوق وترعى المبادئ وتصون النظام وتحمي الأوطان، فهي تحقق ذلك عبر التزامها بالواجبات واحترامها للمسؤوليات، وترسيخ الأطر التقنينية والضبطية والتشريعية، وفهم القانون والوقوف على كل المحطات والموجهات التي يعمل عليها ومستوى اقترابها من أولويات الدولة وتحقيقها للتوجيهات والأوامر السامية.
من هنا بات البحث عن المسؤول القارئ لمظنة تلمس الشخصية الإيجابية الفاعلة في ميادين العطاء والإنجاز، القادرة على تقديم الجديد وتوفير البديل، وشحذ الهمم، وترقية الدوافع، وتوفير منصات الالتقاء، وتعزيز فرص الحوار، والاقتراب من هموم المواطن وأولوياته واحتياجاته، وإدراكها للواقع الاجتماعي بكل معطياته: نجاحاته وإخفاقاته وظروفه وأحداثه ومتغيراته، فيكون القرار المعتمد منه تعبيرا عن امتلاكه لمساحة حضور فعلية في المجتمع، ووعي أقوى بالمعطيات الدولية والإقليمية، قبل أي قرار يتخذه، أو تعميم يوجه إليه، أو تصريح يتحدث به عبر منصات الإعلام وفضائياته، أو حوار صحفي يتحدث به أمام الصحافة، فهو يتحدث بلغة الأرقام، ويتعاطى مع نواتج المؤشرات، ويتعامل مع ما ترصده الدراسات والبحوث والتقارير الدولية بكل مهنية، ويستوعب ما تبرزه منصات التواصل الاجتماعي من أحداث وحوارات في ظل تحليل لنواتجها واستيعاب لمعطياتها، مستحضرا الجهود الوطنية المبذولة، مستوعبا التحولات الإقليمية والدولية ذات العلاقة وانعكاساتها على المسار الوطني في المجال الذي يعمل فيه، وهو عبر نهج القراءة يتابع بصمت نجاح المشروعات والخدمات الوطنية التي تقدمها مؤسسته ويستمع لرأي المستفيدين منها والمستهدفين بها.
إن حديثنا عن مسار القراءة في ثقافة المسؤول وفكره وطريقة إدارته لمؤسسته أو القطاع الذي يعمل به، لا يعني أن يكون مسؤولا مرددا لما يقال أو يكتب، أو أن يظل يبحث عما يثار من قضايا للرد عليها، أو توجيه جل اهتمام المؤسسة التي يقودها للرد على الكتاب في الصحف أو المغردين، لتحسين صورة العمل. فمع أولوية إبقائه على اتصال بالواقع، فإنه يعمل على تكوين حوار مع الواقع، وتعزيز منصات التكامل وبناء أرضيات مشتركة للنجاح مع الآخرين، واستشعار مفهوم المسؤولية الوطنية الكبرى والأهداف العليا عبر الشراكة في المسؤوليات، وحق المواطن في التعبير عن رأيه والإدلاء بأفكاره، بحيث تكون نواتج العمل المتحققة تعبيرا عن روح التضامن الوطني والتفاعل مع اهتمامات الشارع وأولويات الشباب، بحيث يستهدف من قراءاته المعمقة الوصول إلى مرحلة أكثر اقترابا من المجتمع، وأكثر التصاقا به واهتماما بتحقيق أفضل الممارسات عبر استخدام أجود الآليات، فإن هذا الاستيعاب لما يحصل في المجتمع يصنع لديه بعدا عالميا ووطنيا في قراءة الأحداث والمعطيات المرتبطة باختصاصه، فيشارك مؤسسات الدولة الأخرى في تناولها لهذه القضايا، ويضم صوته مع توجهات الحكومة في قضايا استراتيجية كالتشغيل والباحثين عن عمل والقطاع الخاص والشباب والتنمية وغيرها من القضايا التي باتت اليوم تتناول المشهد الوطني وتحدد مجريات العمل بشأن تكاملية الجهود ووحدة التوجه وكفاءة القرار الناتج؛ وعندها لن نجد في واقعنا الوطني ما يحصل من بعض الازدواجية في القرارات، والتهاون في الالتزام بالمبادئ الوطنية العليا التي كفلت حق المواطن في سؤال الحكومة حول الغايات التي تسعى إليها، والجدوى من المشروعات الناتجة عنها، أو حالة التباين في التصريحات والاهتمامات وغيرها من الممارسات التي باتت تؤثر سلبا على مصداقية العمل ومساحة التكامل فيه، وتؤثر سلبا على مسارات الثقة والتعاون بين المؤسسات والقطاعات، خصوصا في التعاطي مع نواتجها على الأمن والهوية والمواطنة والحياة المعيشية للمواطن.
عليه، فإن القناعة بالقيمة المضافة التي تحققها القراءة كمنظومة حياتية تنعكس على شخصية المسؤول كمواطن وموظف ورجل دولة، وصاحب رسالة ومبدأ؛ في منظومة العمل المؤسسي عامة، وفي استراتيجيات القرار الوطني بشكل خاص، وارتباطها بما تخرج به نتائج التقارير والدراسات الدولية والإقليمية كتقرير التنافسية والفساد والأمن الشفافية أو تلك التي تتناول الاتفاقيات والعهود الدولية من مؤشرات عمل وموجهات أداء وإطار تنفيذي، في التعاطي مع نتائج هذه التقارير وتنفيذها، وفق إجراءات واضحة، وأدوات مقننة، وجاهزية مؤسسية تتناغم فيها سياسات العمل ومفردات الخطاب التواصلي، مع خطط التنفيذ وبرامج التشخيص في مختلف جوانب العمل المؤسسي وقطاعات التنمية، مدخلات مهمة في بناء البعد الاستراتيجي لقراءة المسؤول وثقافة القرائية لديه، وهي منطلقات لبناء مجتمع القراءة والوعي عبر وجود مجتمع وظيفي قارئ، يتقدمه مسؤول يقرأ بعمق ويستوعب بمهنية، ويتابع نتائج الدراسات ومخرجات أجندة العمل، ويقف بنفسه على تفاصيله وأولوياته، في ظل امتلاكه لرؤية عمل واضحة، تستوعب ملامح الدور القادم والتحولات الحاصلة في الحالة العمانية بكل أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ منطلقا لرسم ملامح التغيير على الهياكل التنظيمية، والوقوف على جودة المورد البشري الذي عليه أن يستلم زمام القيادة ويؤطر ممارساتها، وهو المسؤول الذي نعتقد بأن ما تحتاج المرحلة الوطنية إليه، ليمتد خيط القراءة إلى نسج خيوط التقاء، ومساحات تأثير واحتواء في الواقع الاجتماعي لصالح تقدير قيمة الإنجاز النوعي، وتأطير الفكر الخلاق ونهوض العقل الاستراتيجي الواعي الذي سيضع المؤسسة في قائمة المنافسة وفي مقدمة الركب، فيتنازل في ظل شموخ القراءة وعنفوانها عن برجه العاجي، ليعيش مع الناس ويتعامل مع الواقع ويقترب منه ويتفاعل مع المستجدات وبشاطر الشباب رأيه واهتماماته.
إن قدرة المسؤول على استيعاب ملامح التحول الوطني، ورؤية السلطنة في التعامل مع الثورة الصناعية الرابعة، ورؤية عمان 2040 والاستراتيجيات القطاعية الأخرى، الطريق لتبني سياسات وطنية تتواكب مع طبيعة المرحلة، وتتناغم مع فلسفة التغيير في الحالة العمانية والتي ينبغي أن يتجه إليه عمل مؤسسته، لذلك لم تعد قراءة المسؤول اليوم حالة طارئة ونمطا حياتيا اختياريا، تحدده مزاجية المسؤول ورغبته، في ظل مسوغات حجم العمل وطبيعته؛ بل ينبغي أن تشكّل سلوكا مهنيا ونهجا مؤسسيا، والتزاما أخلاقيا موجها بآليات عمل مقننة وأطر محددة، ومدخل يستعين به المسؤول في إقرار رؤية العمل وآلياتها القادمة، واستشعار رأي المجتمع الوظيفي والمحلي في طبيعة التحول المنشود في عمل المؤسسة، لتبني القراءة في المؤسسة مناخات الجودة، وتتيح في أروقتها مسارات الفهم للتوجهات والسياسات والإجراءات المتخذة، وتعزّز فرص التواصل وعمليات الاتصال، ورصد القدرات والمواهب والخبرات والتجارب الوطنية التي تحتويها مؤسسته أو القطاع، فتشخّص الحالة المؤسسية برمتها، وتبني فيها حياة جديدة، وبيئة عمل جاذبة متجددة، يكثر فيها من يحملون المبدأ، ويتعمقون في فهم المعنى، ويتذوقون قيمة الكلمة، ويلتزمون منهج العمل الواعي بالنتائج المتحققة، عندها لن تكون أدراج مكاتب المسؤولين ورؤساء الوحدات ممتلئة بالملفات، مستعرضة الأوراق والإصدارات، إذ كل ذلك سيظهر في بلسم الكلمة وصدقها، وارتباطها بالعمل والإنتاج، وصدق الممارسة، وقوة الدليل، وعمق الفكرة، وجودة العمل، ووضوح الأدوات، وتقارب الأفكار، وتناغم الأولويات، وحكمة التعامل مع المعلومات والبيانات، والرصد الدقيق للمؤشرات والإحصائيات، والاستجابة الواعية للتحولات التي ينشدها المجتمع، والجاهزية النوعية للتعامل، في تفنيد الإشاعة، والتعاطي مع الأفكار المشوهة والمفاهيم المغلوطة، فإن إيمان المسؤول بمبدأ القراءة مدخل مهم لإدارة فلسفة التطوير، وإعادة إنتاج مسارات البناء من جديد بطريقة مبتكرة وبأساليب تتسم بالتنوع والتجديد، والبحث عن معطيات جديدة تأخذ في الحسبان الوصول لسقف توقعات المجتمع، والدخول به إلى ميدان العمل والإنتاج وفق تخطيط مستمر، ورؤية واضحة، لتتحول المؤسسة من موقع الاستهلاك إلى الإنتاجية ومن انتظار التوجيه إلى صناعة وتأسيس مبادأة التشخيص، فتصبح خلية نحل تعمل وتبهر، وتنتج وتعطي، وتبادر وتستثمر، فتستشرف بإنتاجيتها مواطن القوة التي تتعامل مع احتياجات المواطن، والأولويات المطروحة من قبله حول جودة خدمات المؤسسة بجدية واهتمام، وتوليد طرق متجددة وبدائل واقعية مستساغة، لمناقشتها والحوار بشأنها، والاهتمام بإنتاج الحلول، والخروج باستراتيجيات عمل واضحة، ونتائج مقنعة، فتتقارب في ظل قراءة المسؤول الأفكار بين الوحدات المؤسسية والتوجهات الوطنية، وتتفاعل المشتركات القطاعية في توليد الحلول والبدائل للقضايا والملفات العالقة، وينتفي سوء الفهم وعقم التواصل وازدواجية المعايير الذي قد يتولد لدى المسؤول عندما لا يدرك مصالح وطنه، أو تغلب عليه نزعة الذاتية وأنانية الطبع، إذ تصبح القراءة قاسما مشتركا في طريقة تقديم الحلول وإعادة صياغة البدائل، إذ أوجدت قراءة المسؤول في الجميع رغبة قوية للعمل معا، وتحقيق نتائج استثنائية، وتبنّي الفكرة في ظل مبررات، أو عدم قبولها في ظل معطيات ومسوغات مقنعة، فتمنح قراءة المسؤول بذلك المؤسسة، فرصة أعمق في التعامل مع التحديات والتوقعات والمنجز اليومي، بطريقة مبتكرة، واستثمار أكبر للوقت والجهد والموارد، بل ويطرح أسئلته الموجّهة على القائمين في الإدارات والدوائر والأقسام، لما تحمله قراءته من فرص التقييم والمساءلة، ومنهج المتابعة والرصد، والتصحيح والتشخيص، لكل التحركات والتوجهات القائمة، بل سيضمن بقراءته الرد على التكهّنات المفتعلة، بشأن فجوة الاتصال الإداري مع المسؤولين أو رؤساء الوحدات، لتصبح قراءة المسؤول لغة خطاب راقية، تضيف لمسات التعلم الذكي والإبداع الخلَّاق، والقرار الحازم الحصيف، المبني على عمق التحليل والدراسة والبحث وتقدير المعرفة واحترام الإنجاز الفكري الرصين، الذي سيشكل بقراءة المسؤول ولادة جديدة للتجديد المؤسسي، لتتجاوز الإشكاليات الفكرية، ومعالجة الأزمات الناتجة من سوء الفهم، وسرعة الأحكام على الآخرين، عبر حوار الكلمة، وقوة البحث عن الدليل، واتساع مساحة الرأي.
شكرا لمسؤول قارئ ومتابع بوعي ومهنية لإنجازات مؤسسته وقطاعه ولأحداث وطنه والعالم من حوله، ليستشرف منها طموحات المواطنين بعمق ومسؤولية ليصنع من موقعه التزاما يمشي على الأرض، شكرا لمسؤول وجد في القراءة محطة استراحة لتقييم إنجازه، وإعادة هندسته بطريقة تلامس شغف المواطن وتقترب من أولوياته؛ فإن ما يعيشه شباب اليوم من تذمر وإحباط وحالة التفكير السلبي واليأس المنتشرة بينهم، حول واقعهم وظروفهم ومستقبلهم، بحاجة إلى مسؤول قادر على الدخول بعمق في فهم فقه الشباب والأجيال القادمة، وقراءة واقعه ومشاركته هواجسه وطموحاته، واحتوائه وترقية دوافعه وتوقعاته. إن وجود المسؤول المواطن المخلص الذي يقرأ ويتابع ويتأمل في كل هذه المواقف هو المؤمل منه السير بالسفينة إلى مراسي النجاة وشطآن الحب والسلام والأمانة والمصداقية.
د. رجب بن علي العويسي
[email protected]
#عاشق_عمان