تتأثر اللغة، بالتطور الحضاري، وبعناصر الاجتماع الإنساني، وكلما جد جديد، في عالمنا، تكون اللغة في تحد لاشتقاق مفردة أو إخضاعها لتصريف.
اللغة العربية واحدة من اللغات التي واجهت تطورات العصور، فاشتقت كلمات، فيما أهملت كلمات أخرى وأصبحت في ما يعرف بخانة المهجور أو شبه المهجور لندرة الاستعمال.
وإن كان الكثير مما هجر أو كاد، ولم يعد يستعمل، ضروريا بسبب طبيعة التطور الحضاري، وعدم قابلية اللفظ للاستمرار، فإن في العربية كلمات كثيرة جميلة، لفظاً ومعنى، إلا أنها دخلت في خانة المهجور أو شبه المهمل، على الرغم مما فيها من لطف في تركيب الحروف، ومعنى مميز يجعل استعمالها، ضرورة، أو غيابها وندرة استعمالها، غير مبررة.
“أول وهلة” المشهورة أخفت: الوَهَل!
وتتردد على الألسن، عبارة “أول وهلة” من مثل “لقيته أول وهلة” والأصل فيها، الوَهَلُ، إحدى الكلمات العربية اللطيفة، لفظاً ومعنى، ولم تعد تستعمل إلا في أضيق الحدود أو انعدمت. والوَهَلُ من الجزع، ومن الفزع، وتأخذ معنى النسيان والخطأ، لدى البعض. وفي تجميع لدلالات كلمة الوَهل، يقال: وهلت إلى الشيء، وهو أن تخطئ بالشيء، فتهِل إليه، وأنت تريد غيره. يرد في الأمّهات.
وأول وهلة القادمة من هذا اللفظ المحبب، الوَهَل، تلفظ بسكون الهاء وبفتحها. والمستوهِل، الضعيف. وبالنقل، الوهَل بفتح الهاء، يجري مجرى الفزع في الأشياء. ووهِل، فزع، والمرة من الفزع، الوَهْلة.
ويكثر في الكلام العربي، استعمال تهوّر فلان، أو فلان متهوّر، فيما المصدر مختفٍ، على ما فيه من لطف في اللفظ والمعنى. وهو، الهور، مصدر هار، والتي منها جرف هار. ويقال تهوّر الليل، إذا ذهب أكثره. وجرف هار، أي منهار، ويقال الرجل متهور، وفيه تهوّر. تورد الأمهات مضيفة: تهوّر، تهدّم. لكننا، لا نعثر إلا بمشقة، وقد لا نعثر أبداً، على كلمة الهَوَر.
الوَهَفُ.. كلمة واحدة تعني الحركة واللون!
وإذا أردنا أن نتحدث الآن، عن اهتزاز النبات وشدّة خضرته، فلا توجد كلمة واحدة، لذلك، وقد نضطر لاستعمال كلمتين للإشارة إلى الحركة واللون، فيما كانت كلمة الوَهَف المهجورة أو الأقرب إلى المهجورة، إيجازاً مكثفاً للمعنى، مع ما فيها من إيقاع. والوَهَفُ هو اهتزاز النبات وشدّة خضرته. تنقل أمهات عن الأمهات.
والهفوة التي بمعنى السقطة أو الغلطة أو الزلّة، لا تزال إلى الآن، إنما صار من المهجور، الهَفْوُ، كلمة جميلة اللفظ بمعنى الذهاب في الهواء، ينقلون عن صاحب أقدم المعجمات العربية، ومنها هفتُ الصوفةَ في الهواء، وتهفو به الريح الواردة إلى الآن.
وعلى الرغم مما تتطلبه اللغة الحديثة، من تركيز في معنى المفردة، وإن أمكن لتصبح اصطلاحاً، إلا أن أصول العربية التي بات منها، في عداد المهجور، الشيء الكثير، كانت تختزن المعنى المحدد بوضعية محددة كما لو أنها اصطلاح.
أكثر من مفردة إنها مصطلح!
فمثلاً، يمكن للكسر أن يحدث في الخشب أو الحديد أو الزجاج، لكن هل يحمل ذات الاسم، لو كان في شيء طري؟ الإجابة العربية القديمة، في كلمة الفَدْغ، وهو إحداث الكسر في الرّطب من كل شيء، كحبة العنب. ومن العاميات المتصلات بهذا الأصل الاصطلاحي للكلمة، لا يزال يقال لضارب الرأس “فدَغَه” ولا يقال جرحه أو كسره، لأن الفدغ دقيق المعنى إلى الدرجة التي يتطلب فيها أن يكون المكسور أو الذي أحدثت فيها إصابة، على شيء من الرخاوة والتجوّف.
والمهجورة المذكورة، أقرب للاصطلاح، لما تتضمنه من معنى دقيق محدد، ولما فيه من لفظ محبّب: الفَدْغ، ومثلها: الثمْغ، لكن مخارج حروفها، أصعب تناولاً من الفدغ.
غاضب وبفمه كلام وشفتاه مشدودتان.. كلمة!
ويقال الكثير من حال الغضب، إنما لو أراد القول جامعاً البرطمة في الكلام، وتزمزم الشفة، والتغضّب، فكل هذا في إحدى المهجورات الجميلات، وهي التزغُّم.
ويرد التوغّل، من مثل فلان توغّل في كذا، ومنه كان الاسم الأصلي لما نسمّيه الطفيلي الآن. فالوَغْل، من الرجال، والواغِلُ، الذي يأتي الطعام دون أن يدعى إليه، والبعض قال إن الوغل من يدّعي نسباً غير نسبه.
وهناك صوتٌ للمشي، ودون جلبة أو ضجيج، إنما له صوتٌ يخصّه، وهو إحدى المهجورات لطيفات اللفظ، الوَهْسُ، وهو من شدّة السير، وتقال في الأكل، وترد في إحداث صوت إذا تم دق الشيء دون أن يكون مرتكزاً على حامل، فتنتج نوعية من الصوت، هي الوهسُ. حروف لطيفة لمعنى دقيق.
الغردقة.. ليست فقط اسم مكان
ونستعمل الآن، كلمة الغردقة كاسم لمكان بعينه، كالغردقة في أرض مصر. إنما هُجِرت كلفظ بدلالة خاصة، في الأصل، لأن الغردقة هي إلباسُ الليل كل شيء، ويقال غردقت المرأة سترها، إذا أرسلته. تورد إحدى الأمهات القديمات.
وهناك كلمات كثيرة من عيوب النطق، إنما هجرت واحدة جميلة منها، وهي الضغضغة، وتقال للرجل الذي يتكلم كما لو أنه يمضغ الطعام، ولهذا كانت تقال لصوت الذئب وهو يأكل اللحم. ونقلت الأمهات عن الأصمعي: يقال للرجل إذا تكلم بالكلام، كأنه يمضغه مضغاً، ظلّ يضغضغ كلاماً لا أدري ما هو!
ومنها في الجروح، منها ما يلتئم ومنها ما ينزّ، لكن منها ما يصهى! وهو إشارة محددة إلى خروج ماء من الجرح: إذا أصاب الإنسان جرحٌ فجعل يندى، قيل صهى يصهى. تنقل أمهات عن الأصمعي، وهي الكلمة التي منها صهوة الجواد، وصهوة كل شيء، أعلاه. ربما لهذا إذا علت الماء الجرحَ، قيل عنه، صَهَى.
المصدر: العربية.نت – عهد فاضل
#عاشق_عمان