ذات مرة قال الفيلسوف والروائي الإيطالي أمبرتو إيكو: “أدوات مثل تويتر وفيسبوك تمنح حقّ الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمونفي البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسبّبوا بأيّ ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورًا. أما الآن فلهم الحقّ بالكلام مثلهممثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء”، من أراد أن يتأكد من صحة هذه المقولة لإيكو فما عليه إلا أن يدخل تويتر ويرى التعليقات علىالمواضيع المطروحة، ومنها مثلًا خبرٌ عادي جدًا، عن إهداء الشيخ الشاعر هلال بن سالم السيابي ديوانه “أصداء من وادي عبقر” للرئيسالسوري بشار الأسد في دمشق، التي ذهب إليها للمشاركة في الندوة الشعرية “أطياب عُمانية تتضوّع في دمشق” التي أقيمت في اتحادالكتّاب العرب في سوريا في الأول من نوفمبر الحالي؛ فمعظمُ التعليقات هي تعليقات تدلّ على الجهل بعُمان، وعلى ضحالة فكر وعقل وثقافةكاتبيها، إذ أخرجت الموضوع من سياقه الطبيعي إلى الهجوم الشخصي على الشيخ هلال، وعلى كلّ ما هو عُماني، لدرجة تناول المذهبالإباضي، من أناس جهلة وكأنّهم فقهاء في الدين وفي العقيدة. ونقلت بعض المواقع الإلكترونية تلك الضجة بأن ذكرت أنه “في الوقت الذيتُمزّق فيه صواريخ الأسد أجسادَ أطفال مخيمات النزوح، تداولت وسائل إعلام عُمانية وأخرى تابعة للنظام السوري، خبرَ استقبال رأسالنظام بشار لشاعر وقاضٍ عُماني وسفير سابق للسلطنة، في دمشق”، وكأنّ هذا الموقع يشير إلى تأييد ومشاركة الشيخ هلال السيابي فيتمزيق أجساد الأطفال السوريين؛ فيما رأى بعض المعلقين أنّ مقابلة الشيخ هلال للرئيس بشار هي “بمثابة صكّ براءة، تُخفي وراءها ماتخفي من الأهداف والمرامي”، – حسب وصفهم – رغم أني لا أعرف ما هي هذه الأهداف والمرامي، ولا أدري ما الضير أن يزور الشيخ هلالالسيابي أو أيّ شخص آخر سوريا؟ وما هو الضرر من أن يهدي شاعرٌ ما ديوانه لرئيس دولة، كما أهداه لآلاف غيره؟ ولا يمكننا أن نتغافلعن السنوات العشر التي قضاها الشيخ هلال سفيرًا لسلطنة عُمان في سوريا، نسج خلالها علاقات جيدة مع الأطياف السورية المختلفة.. السياسية والأدبية والدينية والاقتصادية والفنية وغيرها.
لقد بلغ الجهل مداه في بعض التعليقات، حيث ذكر أحدهم أنّ “أهل سلطنة عُمان خوارج، ولا علاقة لهم بأيّ قضية عربية سابقًا أو لاحقًا،وتاريخهم يشهد”، وإذا بالرد عليه يدلّ على جهل آخر مركب: “هذا السيابي لا يمثل إلا نفسه، فهو في الأخير شاعر وكثير من شعراء العربمنافقون.. كذلك هو قاضي.. وثلثا القضاة في جهنم”، وهذا يدلّ على عدم الفهم والتثبت من المعلومة؛ فقضيةُ أنّ الشيخ هلال هو قاضٍ لانعلم مصدرها إلا من أحد الردود فإذا الكلّ يبني عليه. وفي كلّ الأحوال لم يقل الشيخ هلال إنه أهدى ديوانه للرئيس بشار الأسد ممثلالعُمان، ولم يقل إنه في سفره لسوريا يمثل أحدًا أو وطنًا أو مذهبًا أو قبيلةً، ومن هنا فلا يمكن لأيّ كان أن يدّعي أنّ الشيخ هلال، أو الحكومةالعمانية، أو أيّ فرد عُماني قد شارك في تدمير سوريا وفي تشتيت الشعب السوري الشقيق؛ فرغم أنّ قائمة المقاتلين في سوريا ضمت أكثرمن ثمانين جنسية، إلا أنّ عُمانيًا واحدًا لم يكن ضمن تلك القوائم، وكذلك فإنّ الموقف العماني الرسمي من الملف السوري كان موقفًا متزنًا،فلم تشارك سلطنة عُمان في المهاترات ضد سوريا، ولا في المؤامرات ضدها، ولم تشارك في المؤامرات والحروب على اليمن وليبيا والعراق ولافي محاصرة قطر، وغيرها من البلدان؛ فلم تقطع سلطنة عُمان علاقاتها مع سوريا، رغم مقاطعة معظم الدول العربية لها، وهي الدول التيتسابقت في إعادة علاقاتها مع دمشق؛ ورفضت عُمان تجميد عضوية سوريا في الجامعة العربية، ولا يمكن لنا أن نتصور أصلا جامعةعربية دون سوريا، كما أنّ الزيارات لم تتوقف بين البلدين؛ فالموقف العماني ثابت في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير.
عن موقف الشيخ هلال السيابي عن تلك الضجة المفعلة، أشار إلى إنّه ممن يرحّبون بالرأي والرأي الآخر، ويعتبرُه ظاهرةً صحيةً يجب الحفاظعليها، بين أبناء الوطن الواحد، “بشرط أن يكون وفق الأصول والآداب والأخلاق”. أما عن الفئة التي سماها “المجردة من الأخلاق”، فيرى أنّمثل هؤلاء قد يمثلون فاجعةً قادمةً للوطن، كما فعل أشباهُهم في سوريا والعراق وليبيا، “فأشعلوا النار وحطموا الديار وباءوا بالخزيوالعار”. ولم يفته أن ينبّه على ضرورة مشاهدة اعترافات الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني رئيس الوزراء القطري السابق، حول المشكلةالسورية وما حُضّر لها، وأين حُضّر، ومن حضّر، وما رُصد لها من مليارات المليارات، ومن قاد غرف العمليات من صقور الموساد والسي آيإيه، والعظائم المتعلقة بكلّ ذلك، وقال: “لو شاهدوا تلك الاعترافات لربما كان لهم رأيٌ آخر”.
وقد استوقفتني نقطتان في تعليق الشيخ هلال.. الأولى؛ عن خطر الفئة التي سماها “المجردة من الأخلاق”؛ فقد دقّ ناقوس الخطر، فمانشاهده الآن من تعليقات الشباب العماني على مواقع التواصل، وكذلك بعض الفيديوهات التي تنتشر، يُنذر فعلًا بخطر كبير قادم. وأذكر أنّالشيخ خلفان بن محمد العيسري رحمه الله، ذكر في إحدى خطبه على منبر جامع البسيوي في الحيل الجنوبية، أنه كان في رحلة معالشباب العماني ضمن رحلة “صناعة القادة” إلى كوريا الجنوبية، فزاروا عددًا من المدارس؛ وهناك قيل لهم إننا نركز على مادة “الأخلاق”من الصف الأول الابتدائي، حماية لأجيالنا القادمة من الانفلات ومن الغزو الخارجي. وأظن أننا أحوج الناس إلى ذلك؛ فالجيلُ الجديد لميتربى في السبلة ولا في الكتاتيب ولا في المساجد، إنما تُرك أمره لوسائل التواصل الحديثة. أما النقطة الثانية في تعليق الشيخ هلال، فهيأهمية الاطلاع؛ فالظاهر للعيان أنّ كثيرين ممن يتصدون لتناول كلّ قضية – إن كانت سياسية أو دينية أو اقتصادية أو تاريخية – لا يقرأون،وليس لهم أيّ دراية بما يكتبون؛ فهم إمعات أو ببغاوات تردد فقط ما تسمع، دون إعمال العقل أو البحث عن المعلومة، رغم توفرها بكلّ بساطةالآن. لكن الغريب في الأمر أنّ المواضيع الجادة لا تجد إقبالًا كما تجده المواضيع التافهة، وهذا يدل على الخلل في الذوق العام، وهيمشكلة ليست قاصرة علينا فقط بل هي عامة.
لا يمكن أن تجلس مع الشيخ هلال السيابي – حسب معرفتي الشخصية به – إلا وتخرج بفائدة؛ فهو عميقٌ في تحليلاته، وفي ثقافته، وفيإلمامه بالأحداث، وفي جرأته في قول ما يؤمن به، لا يُلقي الكلام على عواهنه، مع تجربة حياة ثرية، وتواضع جم، وحُسن استماع لمحدّثه مهماكان؛ ومواقفُه الوطنية والقومية مشرّفة، وكلّ قصائده شاهدة على ذلك. فلا غرابة أن يكون لإهدائه الرئيس بشار ديوانه “أصداء من واديعبقر” كلّ تلك الأصداء، لأنّ من غرّد لا يعرف شيئًا عنه، ولكن العتب على أدوات مثل تويتر وفيسبوك التي منحت حقّ الكلام لأيّ أحد، كماقال أمبرتو إيكو، ومن سوء الأدب أن تفلت ألفاظ بذيئة من بعض المغرّدين غير عابئين بآثارها، مع الإيمان التام – طبعًا – بحريّة الرأي، فيحدود الأخلاق، أما إذا تجاوز الأمر ذلك، فهذا سوء أدب.
بقلم : زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عمان. عدد الأثنين 14 نوفمبر 2022م