لست هنا بصدد الحديث عن الذهب او الفضة ولا الحديد والالمنيوم والنحاس ولا عن عشق النساء للألماس الثمين واللؤلؤ المستخرج من اعماق البحار ولا غيرها من المعادن الثمينة او الهامة او التي يسعى الإنسان للتزيّن بها او التباهي بامتلاكها فهي تسلب العقول وتلفت الأنظار، لكني اعني في مقالي اغلى المعادن المتمثلة في معدن الإنسان ذاته،، هذا هو الأهم فإذا أردت اختبار إنسان والتعرف إلى معدنه، فراقب مواقفه، وسلوكاته في أوقات الشدة. والناس معادن بينهم النفيس، وبينهم الرخيص، وفي حياتنا أناس من ذهب، وأناس من فضة، وإذا أردت أن تختبر الجيد من الرديء في المعادن عليك أن تصهرها في النار، وكلما زادت قيمة المعدن، ونفاسته، استعصى على النار، وسرعان ما تذوب وتنفصل عن المعدن النفيس كل ما علق به من شوائب ليزداد صفاء، وبهاء.
لا شك ان الأزمات، والكوارث، والمحن، كلها شدائد تمر علينا لتصقل قيم ومبادئ الإنسان، وتُظهر المخبّأ منها، والناس كالارض تنقسم الى معادن، منها الصافي والمختلط وأساس الصفاء في معادن الناس هو عفتهم وإخلاصهم لمواقفهم ووفائهم لعهودهم وصفاء نفوسهم وعدم اختلاطها بالشوائب التي تدنس بريقها وتعكر صفوة نفوسها، وابتعادها عن الخبائث التي تتسم بها الانفس الشريرة. فعهد الكريم لا يتغير ولا يتبدل بتبدل الاحوال كالمعدن الاصيل الذي لا تغيره الظروف، يقول لقمان الحكيم لابنه: يا بني الناس معادن تصقلها الشدائد، فأمسك بأسنانك على من يؤازرك في شدتك، ولا تحزن على من فقدْته، ولم تجده في محنتك.
ودعونا نتفق ان الحياة الدنيا مسرحٌ كبير يصعب على الإنسان أن يدرك فيها حقيقة الآخرين وما تخفيه نفوسهم نحوه، وإن كانوا ممن يتعامل معهم بشكل يومي، لأنهم يرتدون أقنعة جميلة وجذابة هم أبعد ما يكونوا عنها لكونها غير معبرة عن حقيقتهم كقناع المحبة على سبيل المثال، فلربما يحمله من له في قلبه الكره والحقد والحسد تجاهك دون أن تدري، لأنها من المشاعر المضمرة التي لا تظهر من دون مواجهة المواقف الحياتية التي لا تحتمل الزيف والخداع، فكثيرون من نجدهم معنا في مقدمة الصفوف في السراء، لكنهم في الضراء يتراجعون للخلف، بل وقد يغيبون عن الأنظار فيهربون عنا ويتخلون عن كل ما كانوا يبرزونه في لحظات السعة والرغد، فالظروف القاهرة والمأساوية هي الوسيلة الوحيدة لكشف حقيقة من ادعى نبل الأخلاق وصدق المحبة.
وهناك حكمةٌ شهيرةٌ تقول «متصنع الود تفضحه الشدائد، ومتصنع الأخلاق تفضحه الخصومة، ومتصنع الحب تفضحه المصالح» فالكلمات قد تخفي خلفها معاني كثيرة، لكن المواقف والتصرفات تنطق دائما بالحقيقة، فكن حقيقياً بمقامك بأسلوبك بأخلاقك بأيمانك بتقواك بقيمك بروحك بشخصيتك بعفويتك وأرض بما وهبك الله اياه من عطايا، وكن انسانا في فعلك وقولك غير متكلف ومتصنع، وكن عزيز النفس ابيّ النفس كالجبال والأشجار.
ان الشدائد تفضح الود المصطنع وتبرز المعادن الأصيلة ولذلك يقال «إن المنتصر أصدقاؤه كثيرون، أما المهزوم فأصدقاؤه حقيقيون» ولا يسلم الإنسان من قوارع الزمن ونوازلها التي تتخبط به والتي قد تعوزه الحيلة للجوء الى طلب المساعدة والسند وقت الحاجة لكنه للأسف ينصدم بمواقفهم الغير مشرفة، فتجدهم وقت السراء ملفوفين حوله متكالبين على خيره وعزه وبركة أمواله يلبسون أقنعة المحبة والأخوة والصداقة والقرابة يمثلون ببراعة على المسرح ولكنهم أبعد عنها، وأما في وقت الضراء تجدهم مثل السلحفاة تهرب لتتقوقع وتتراجع للخلف ببطء وتظهر عليهم ملامح الحقد والكره والبعض والحقد والحسد.
وان اعتبرنا المعدن في انسانيتنا من القيم الإنسانية فلأنها ليست مفاهيم نظرية وكلمات عابرة فقط، ولكنها مواقف حياتية تُثبتها الأفعال التطبيقية، لأنها تظهر حقيقية في واقعنا العملي لا في الأقوال التي تقال شفهيا أو كتابيا وحسب، وفي زمننا الحالي باتت المعادن الأصيلة عملة نادرة، وأصبحت كلمة «معدنك أصيل» أو «معدنك ذهب» باعتبار أن الذهب معدن لا يبلى ولا يصدأ، أصبحت كلمة تستخدم بندرة او للمجاملة والمصالح، هذا إن أردنا استخدامها كوصف لشخص يستحقها، لا ذكرها لمجرد المجاملة فالمعادن الأصيلة تظهر في المواقف، وهي أصلاً صناعة المواقف حينما تتحرك وفق قناعات وثوابت، وحينما يتحرك الفرد وفق ما يؤمن به وما يعمل به من مكارم الأخلاق ورفيع الصفات.
ان المعدن الحقيقي لشخصية الإنسان، لا يمكن أن يُميَّز بسهولة ويسر، بل قد يحتاج الى سنوات عدة وأيضاً إلى مواقف عدة حتى يمكننا أن نتعرف على معدن الشخص الذي تصاحبه أو حتى تتعامل معه في كل حال، نعم إن المواقف الحياتية هي من يظهر المعدن الحقيقي لكل شخصية، ولأن غالبية المعادن تكون صلبة فلذلك اقترنت بالشخصيات الانسانية ومدى قوة صبرها وتحملها ودعمها لمن حولها، فكان منها ما هو الأعلى والأصيل وأيضاً منها الرديء، والناس بين هذا وذاك، والحياة ومواقفها تظهرنا على حقيقتنا مهما حاولنا إظهار عكس ذلك وقد نرتكب الكثير من الأخطاء ونضل طريقنا أحياناً ولكن ما يثبت في النهاية هو المعدن الأصيل والأصل الطيب فالذهب لا يصدأ ولا يتعفن، ومعادن البشر تصقلها المواقف اليومية والأزمات الحياتية مع البشر والظروف.
ويحاول الكثير من الأشخاص أن يتصرفوا على عكس سجيتهم، ويبدون ما يعارض باطنهم، وأن يتصنعوا الأخلاق والذوق والصدق والإخلاص ولكن سرعان ما تكشف الشدائد عن هؤلاء الناس وتتضح حقيقتهم لأنه مهما كانوا على قدر من التمثيل والتكلف ستأتي لحظة ينزعون فيها قناع السلام واللطف ويظهرون فيها على حقيقتهم من دون أقنعة، لذا علينا ان نتذكر هذا الشطر من بيت الشعر الذي يحفظه الكثيرون ويرددونه لمواساة أنفسهم عندما يخذلهم من توقعوا وقوفه إلى جانبهم ( جزى الله الشدائد كل خير) ويُلحقونه بالشطر الثاني الذي يقول (عرفت بها صديقي من عدوي).
أخيراً..
البعض في حياتنا وبعد ظهور معدنهم ليسوا إلا «حضور مزيف «، وباختصار في ظلمتك تُعرف نجومك..
الإعلامية ابتسام الحبيل
[email protected]