التقط كروم العنب هذه المرة على غير الطريقة المعهودة منه، بلغ الغضب تفاحة آدم التي تميز عنقه الرفيع، نظر للأفق الصخب المختبئ خلف أكوام سحب نيروزية من خلال نوافذ قصره الذي تسللت إليه أنوار الخورشيد العظيم، هو شاهنشاه ملك الملوك فرصاد البهي الذي قابل ملائكة المطر والريح وأبناء الأرض والسماء كما عرفته الأفواه والأساطير.
سكب النبيذ عله يهدأ، كانت زخاته الندية، قررت أن تمكث لوهلة على جدار الكأس، ومن ثم تعبر رمقه بخفة، وضع الكأس على طاولة مستديرة نحاسية، وعيناه تبحثان عن إنسان ما بين الحراس. أحدهم تلعثم، ارتبك، لا يدري أي الكلمات ينسج، لا يدري ما يمكنه أن ينطق، انتبه الملك لتلك الربكة واقترب من الحاجب.
– سِتار!.. انطق!
– ماذا عساني أن أقول؟
– قل ما عليك قوله… هل وجدتها؟
– نعم يا مولاي… لكن.
– لكن ماذا يا ستار.
– قل قبل أن يبلغ فأس أحد حراسي رأسك.
– ابنة برديا…عازف التار المتجول.
– وهل بإمكانها العزف؟
– لا يمكنها يا مولاي.
– هل بإمكانها الغناء؟
– لا لا يمكنها يا مولاي
ارتبك الحاجب لا يُمكنه تخيل رأسه ملقياً وسط روث الخيول في الإسطبل، ولا يمكنه فقدان عنقه القصير الذي يرغب أن يخرج دوماً بخلسه بين ثوبه العريض، تخيل نفسه بين الظلام الدامس الذي يسكن سجون القصر. تخيل وجهه القبيح مكسواً بالطين، وقد غرز في بطنه رمح عزرائيل، وروحه قد بلغت السموات العليا، واختنقت بين غيوم الربيع، وضاعت هناك وسط الكون الفسيح، لا يمكنها الرجوع، لا يمكنها القدوم من البعيد، إلا إذا عمد الحاجب أن ينقش كلماته باسم فريال.
فريال! …. يا مولاي.
…. فريال .. اسم جميل.
ردد الملك اسمها مرات كثيرة وسط أعصابه وعقله، وكأن اسمها اخترق سمعه وفكره، ود أن يسأل الحاجب الجبان أسئلة أخرى، لكن الحاجب أجاب سريعاً.
لها القدرة على الحكي والكلام…
تنهد الملك فرصاد، وتذكر أنَّ أزمة النعاس التي انتباته السنين الستة الأخيرة قد تنتهي إن بقي مستيقظاً شهوراً أخرى، لا يُمكنه أن ينام الحروب قادمة وبحاجة لليقظة الدائمة، والأعداء كُثر والأصدقاء قلة. كيف لفريال أن تنقذه من أن يشعر بأيَّ سبات، كيف لفريال أن تجعله مستيقظاً، على تخته وأمام أعمدة القصر الذهبية، وأين هي فريال؟.
صدح الملك بأعلى صوته.
– احضروا فريال!
بينما بقيت بضع حبات مرجانية على المنضدة، سعت فريال بكل ما فيها من قوة أن تلتقط الحبات الرافضة لأن تتسلق عنقها، حاولت بكل هدوء أن تلتقط واحدة تدحرجت بعيداً عن المنضدة، وسقطت أسفلها، نظرت فريال بوجهها الطفولي وعينيها الواسعتين لحبتين آخريين كانتا أسفل المنضدة حتى نادت عليها امرأة خمسينية يطلق عليها نفيسة.
عليك أن تتجهزي… الملك بانتظارك.
التفتت فريال للمساعدة نفيسة، ومن ثم قررت بسرعة التقاط الحبات المرجانية ووضعتها في جيب فستانها القرمزي.
استعدت ووقفت أمام الباب لتخرج منه، أوقفتها نفيسة وسألتها إلى أين، رددت هي أنها ستلقى الملك، ليس في وضح النهار يا فتاة، الليل ستار، تجهمت فريال وعادت باحثة عن حباتها المرجانية.
الليل ستار، عالم بالأسرار، وفعلاً حضر الليل وأسدل الجميع ستائره، وانتظرت قليلاً حتى عمت السكينة بلاط القصر، عبرت أعمدته وفوق رأسها إكليل من الورد وكسى وجهها البيضاوي وشاح
خفيف، فُتحت أبواب كثيرة أمامها كانت موصدة لسنوات أمام الحاشية، ودخلت فريال باباً أولاً، وباباً ثانياً، حتى وصلت للباب رقم عشرة، ووقفت أمامه والحماس يعتريها، وأرادت أن ترفع يدها لتفتحه، لكن نفيسة أصدرت صوتاً خفيفاً وهمست في أذنها.
– إنها….
عرفت فريال أنه لابد أن يكون أحد أجنحة الملك وربما مكتبته الخاصة، أو ربما غرفة لعبه للشطرنج، لكن نفيسة ضغطت على شفتيها أكثر، ورنت بحدة إلى فريال.
فُتح الباب وكأنه أحد أبواب الفردوس السبعة، نظرت فريال لكل زاوية في الغرفة الأنيقة، بدا أثاثها أشبه بأثاث البلاد الفريدة البعيدة لا يشبه أي شيء رأته في بلاد الكروم.
– جاء الوقت يا فريال.
وضعت فريال رجلها اليمنى ثم اليسرى، ذكرت الله الرحمن، ووضعت يدها على صدرها ومن ثم على عقد المرجان، بعدها أوصدت نفيسة الباب وغابت بعيداً خلفه، وظهر لها رجل وسيم القامة، دقيق الملمح والشكل، اقترب منها الرجل ووقف أمام خمارها، وعمد أن يرفعه.
عرفته أنَّه الملك.
بدت دقات قلبها تخفق بشدة، ترددت وطلبت منه أن يتوقف.
– ليس بعد أيُّها الملك البهي.
– متى إذن؟
– ليس قبل أن تعدني بشيء.
– ما هو؟
– أن لن يبلغك النعاس وأنا أحكي ما جرى.
– أعدك.
عاد ليرفع الخمار عن وجهها، أحمر خداها، ونظرت لعينيه الجميلتين.
أراد أن يبلغ جيدها ليُقبلها قبلاته التي خبأها لها قبل أن تدخل، ونظر لعينيها وهو يرغب أن يضمها أكثر إلى صدره ووجده، وأن يجد لخيالاته مكاناً بين كفيها.
نسيت والدها بارديا وأوتار التار التي لطالما سكنت عقلها، نسيت القرى البعيدة والبلدان الكثيرة التي جابتها، ونسيت ألعاب الدمى وأحلام الصبا، نسيت كل شيء في تلك اللحظة المصطبغة بالقدسية المذهلة أخبروها أن في تلك اللحظة ستصبح امرأة، وأن الفتاة بداخلها ستموت بسكينة رجل يعشقها ذلك العشق الأبدي اللذيذ.
توقف الملك من التوغل أكثر في روحها العابرة لجسده، وسألها بشكل مفاجئ.
– يا ترى ماذا جرى؟!
مُزنة المسافر