بين ظلال العالم، كان ظل وحيد يسكن أسفل نخلة وسط كثبان الصحراء العريضة، كان هذا الظل يطلق عليه سمير، كان ظلًا سعيدًا يجلس أسفل سحابة، أو يمتطي خيلًا ما، أو ربما يستريح في الواحة، وحين يأتي السيارة يمضي معهم وكأنه أحد ظلالهم التي ولدوا بها.
فكّر سعيد أنه لا يمكنه أبدًا المكوث أسفل النخلة وقلبه متشوق لرؤية من يعتلي الهودج القادم بين السراب، عليه أن يقترب ليظلل الهودج المكسو بالحرير والذي تزينه أجراس صغيرة تبعد الملل أثناء المسير، فكر أنه أحد أمراء الصحراء.
اقترب سمير، وحرك جسده المتكون من الضياء، ورقص قليلًا في الهواء، عبر عن فضوله برغبته في فتح ستار الهودج، لم تكن إلا هنيهة وكُبل سمير بحبل، وهجم على جسده رجل سمين.
لا يمكنك رؤية الأميرة.
لا يمكن رؤية الأميرة القبيحة التي تجلس على وسادة ناعمة على سنام الجمل الظمئ، إنها جريمة أن يراها أي إنسان فما بالك إن كان ظلًا أحمقًا مثل سمير، نهق، وشهق سمير لم يفعل أي شيء، أراد فقط أن يرى ساكنة الهودج، بكى وشكا من الأصفاد، لم يقصد أبدًا إشعال الأحقاد.
– عليك أن تبقى هنا.
سحبه الرجل السمين نحو نخلة صغيرة، وقيده حتى يتوقف عن الرقص في الهواء أو بلوغ الأشياء، وحتى يكون ظلًا مطيعًا، خاضعًا للجالسين في الواحة.
انهمرت دموعه، إنه ظل!، لا يقصد أبدًا إيذاء البشر، في ليالي السمر أو السفر، إنه برئ وذنبه فقط أنه سريع، أراد أن يرى ما خلف ستار الحرير، أراد أن يصنع مظلة ما للأميرة فقط حين تخرج من عتبات الهودج، أراد أن يظللها بظله السعيد البهيج.
– كاذب! اسكت أيها الظل!
لم يكذب في حياته وسط الظلال الكثيرة حتى يقرر أن يكذب بين البشر، ما يمكن لسمير أن يصنع أو يفعل، لا يمكنه التفكير فهو مكبل ومقيد وبعيد عن أي معنى للحرية، كان لابُد من أسره وفصله عن كل شيء، عليه أن يجيد الكياسة واللباقة، عليه تعلم الكثير من الأمور إن صعد إلى هام رأسه الفضول.
– هل يهرب؟ لا يمكنه الهروب نحو الدروب، إنه ظل! سيضيع.
بحث الملك فرصاد عن ظل فريال حين وقفت فجأة، لتلتقط كرمًا من صحن نحاسي عريض.
– لماذا صمتِ يا فريال؟
أطلقت ضحكة ما، ثم مالت بجسدها قليلًا نحوه، وتعاظمت أنفاسها حين نظرت نحو رجولته، كسرت الصمت المنسوج بينهما، ووضعت كُرمًا أحمرًا في فمه، فتح فاهه معربًا عن قبوله وهو يرنو نحوها، وقبل أن يسألها سبقته بديهتها المعتادة.
– إليك ما جرى يا مولاي.
أنهى النهار ساعاته الأخيرة، ووجد سمير أن رحمة الأميرة القبيحة التي تعتلي الهودج قد طالته حين طلبت من الحارس البدين أن يحرر سمير مع دخول الليل، وتركت قافلتها هذا المكان والزمان.
سادت السعادة قلب سمير ونال حريته من جديد، وشعر أن بإمكانه الرقص في الهواء وبلوغ الأشياء والصعود ربما قليلًا نحو السماء.
تعاظم خيلاؤه حين تدارك أنه ظل حسن النية، وأن حياته مبنية على النية الصالحة والرغبة الجامحة في المسامحة والمصالحة، إنه ظل متصالح مع ذاته ونفسه ولا يمكن تغيير نواياه البينة الواضحة الناصعة، فقلبه أبيض بل ناصع البياض.
لم يرَ قلبه أبدًا في حياته، ولا يعرف ما هو لونه لكنه مدرك أنه يشبه القلوب الطيبة، السعيدة البهيجة، قرر الرقص مجددًا معربًا عن سعادته الغامرة، وأفكاره الجديدة العامرة والتي ستمنحه الألق قبل ولوج الفلق فهو يخشى خورشيد النهار ولأنه يعمل أكثر حين تصبح الشمس قرصًا عظيمًا لا يمكن نكرانه في كبد السماء.
صعد بين الغيوم، إنه العلو، إنه السمو، إنها السماء الفضاء، ربما سيغدو ظلًا ساطعًا مثل النجوم، ربما سيكون كائنًا سابحًا يدنو من السديمات والغيمات. من تلك الأكوان المخفية وراء المجرات والتي تبدو كالدرر البعيدة، هل تلك الأجرام السعيدة؟
هناك بين الكواكب الشبيهة ببيوت العناكب، بين التيوس والرؤوس الغائبة بين الأشلاء، بين الغبارات الكثيرة والسرابات الوحيدة، سيكون سمير.
هل هي وحيدة؟
سيسبح وسيجرب حظه، علَّ إحدى الطيور تمنحه جناحًا أبيض، هو بحاجة للأجنحة التي ستمنح جسده الظلي كل ما يحتاجه، هو فقط بحاجة للأجنحة.
أجنحة ملائكية؟
سيكون ظلًا مطيعًا، وديعًا، ولا يمكنه أن ينسى صنيع أي أحد، وشعر سمير أنه يطير، وأنه يسير نحو قدر مثير.
وفعلًا هذا ما حدث حين وجد سمير أن جسده الظلي انكمش وسقط ولم يكن هذا ما حدث فقط، فقد بلغ رأسه ثقب كبير يشبه الثقوب التي تلتهم النجوم المريضة، والتي تُغيب لمعاناتها الجميلة.
سمير: أيها المجنون! أيها المخبول! أيها المعتوه.
إنها إهانة كبيرة، ثقب كبير لا يشبه أي جرح قديم أصاب جسده الظلي من قبل، إنه قادر على الشعور بالألم فقط، واسفاه يا سمير لم تعد ظلًا جميلًا سعيدًا كما كنت.
يا ترى ماذا أصبحت؟
أصبحت تعاني من شلل الظلال، عيناك لا ترى الأشياء بشكل جيد، إنك مشوه، إنك قبيح كما هو حال أميرة الهودج، لكنك دون هودج يا سمير، ماذا ستفعل؟
سمير: هذا فعل دنيء، ثقب رديء الصنع؟
من الجاني؟، من الفاعل؟، من العاقل الذي يصنع ثقبًا كهذا، إنه شيء مريع، فضيع.
لا يمكنك أبدًا الرقص في الهواء، أو بلوغ السماء أو حتى الشعور بالهواء، اختنق الآن يا سمير، إنه الموت.
لكنك ظل! لست مثلهم يا سمير، لست مثل البشر التائهين في الصحاري.
أخبر القاصي والداني؟ من هو يا ترى الجاني؟
أزال سمير يده عن عينه اليمنى، وخبأ ابتسامة خبيثة، وسأل بحمق كبير.
من أنت؟
إنه إيليا.
إيليا الفتى الذي تخشاه العيون والقلوب، إنه الصبي القادر على أن يثقب سحبًا كثيرة في السماء، وهو قادر على أن يصنع ثقبًا في قلبك وعقلك.
سمير: أرجوك! أرجوك… لا أريد الموت.
لم يتوسل سمير في حياته هكذا، إنه الظلام الدامس الهامس بالموت، وبضياع روحه الظلية، ستضيع، ستضيع لا مجال أن تعود روحه إليه.
إيليا: توقف عن رجائي… لن تموت!
لن يموت!، هذه الرحمة البشرية قد طالته الآن، إنها الرحمة المسكونة بالكلام اللذيذ، ماذا سيقدم له هذا الإنسان الغريب غير أفكارٍ سحيقة، يكفي أنه صنع له ثقبًا كبيرًا وسط رأسه، كيف له أن ينجو من أن تعاتبه نفسه، أن ينتبه قليلًا حين يرقص بعيدًا في الهواء.
إيليا.. تعال معي إلى المدينة، وستعيش حرًا طليقًا.
وماذا يفعل ظل في المدينة الكبيرة؟ لقد اعتاد العيش في الواحات، والصحاري البعيدة.
إيليا: ستعمل ظلًا لصًا؟
لص؟ يسرق الأمور الثمينة والدفينة، سيكون سارقًا ومارقًا لحيوانات الناس من كل الأجناس، لأنها المدينة البعيدة الوحيدة.
الصحراء قاحلة والسيارة فيها دومًا راحلة، لا تبقى ولا تشعر به، يفرح لدخول الغرباء والدخلاء لكنه لاحقًا يكتشف أنهم ماضون راحلون إلى ديارهم.
إيليا: هل ستأتي معي؟
مُزنة المسافر