غابت أخيلة الرجال بعيدًا حيث الشمال البارد، فكان لا بُد من الرحيل مع الفجر، اعتلى الملك فرصاد سرج الجواد، وشد لجامه معلنًا وقت الرحيل، تاركًا خلفه وجده الجليل للصبية على تخته.
قبل أن يمضي نظر إلى فريال رنوة أخيرة، عله يشعر بأحلامها المختبئة داخل عقلها، متأملًا أن يفيقها الوجد فلا تعود هائمة بين الحلم واليقظة، وتمنى لوهلة أن يدخل النير إلى أحشائها ليوقظها حتى تودعه وداعًا مغلفًا بالشوق.
قال لها إنه سيشعر بالشوق.
وسيكون للشوق مكان في فؤاده.
ستكون هي مع الحاشية، هكذا يسميهم الملك.
أعوانه وأذرعه في القصر ممن يسكنون جعبة الملك ويشغلونه شغلة دائمة.
فينسى الملك أن يدلل فريال دلاله المعتاد، ولا يمكنه أن يردد كلماته المسكونة بالوجد ولا يمكن أن يبلغه السعد حين تكون الحاشية حجته الدائمة في الخروج أو المكوث.
هل سيأسرها الشوق؟
إنها تشتاق للأسفار والأشعار والأوتار الضائعة، والمغنى والمعنى والأصوات الصادحة بالحياة الزاهية الباهية الممتلئة بالألوان والآمال، بالخيال اللاهب الصاخب، بجدائل شعرها الكستنائي الذي يختبأ أسفل منديل قرمزي، وبين عيونها اللوزية يظهر فضولها الجامح السامح لها بأن تخرج من عربة عازفي التار إلى العالم.
كانت ترتمي على الربوع والحقول، وتلقي بجسدها على العشب الرطب.
بانتظار الفراشات حتى تتسلل إلى وحدتها.
وللحشرات الرنانة والطنانة.
وحين تتوسد العشب الرطب.
ترنو إلى السماء البعيدة.
المزدانه بالنجوم البراقة الشعشاعة.
ناظرة إلى العناقيد.
العناقيد التي تنادي باسم فريال.
القرب القرب هو الوجد.
والبعد البعد هو الشوق.
يا فريال.
شعرت فريال أن العناقيد تنصح فؤادها المسكون بالوجد، وتمنحها مفردة أخرى هي الشوق، لكن الصبية تريد نسيان الكلمات المعنية بفؤاد الملك.
إنها كلمات تخصه وحده بعيدًا عن صباها، وحكاياها الممتلئة بالصبيان واللصوص.
هل سيشعر بالشوق في الشمال البارد؟
أم سؤاله لها وهو عائد.
يا ترى ماذا جرى؟
جاء للمدينة المكتظة بالصبيان واللصوص، وهبي عازف الهارمونيكا.
وقيل إن داخل جذع جسمه تسكن النغمات المستفيضة.
قال وهبي لإيليا إن الهارمونيكا كانت عونًا له في رحلاته، وجاءت بأخباره للمدينة.
لكنه الآن لا يمكنه الرحيل والضياع بين الدروب الملتوية والربوع المستوية.
لا يمكنه أن يضيع مع النغمات فقد لا يجدها حين تسافر بعيدًا مع الريح.
أو حين تشاكس قليلًا وتجد متعة في الاختباء بين الضباب والسحاب.
أو حين تراقصها النسمات الربيعية، فلا ترغب في العودة داخل الهارمونيكا.
أو الرجوع إلى وهبي الذي يظل ينادي عليها طيلة النهار.
فقرر وهبي التخلص من النغمات المستفيضة.
بمنح الآلة لإنسان ما.
فصارت الهارمونيكا لإيليا وحده دون غيره.
تحمس إيليا للهارمونيكا وصار يعزفها ليل نهار دون أن يعي أنه لا يتوقف عن العزف، إنها تدغدغ العيون والقلوب، وتصنع النغمات المستفيضة بخفة عالية.
إنها سحرية، عجائبية.
تمنحك السعادة الغامرة، والأفكار العامرة.
فتطير نغماتها نحو السهول والحقول.
وتكون حيثما تكون.
لكنها تعود إلى إيليا وتبهج قلبه ونفسه.
لم يعزف الهارمونيكا في حياته لكنه الآن ينسج أجمل النغمات.
بالتأكيد النغمات المستفيضة.
فهي راقصة وغير عابسة مثل سمير الظل.
تتبدد وتتلبد.
تتباين وتتشكل.
تظهر بكل الأطياف والأحرف.
تعرف الكلمات والأحجيات.
تدرك الموسيقى والأمور البديعة.
لكنها سريعة وضليعة بالضياع.
تكون حيثما تكون.
فيرجو إيليا أن تعود إلى الهارمونيكا لتبهج قلبه ونفسه.
لكن النغمات المستفيضة وجدت أسفل شجرة البلوط سمير الظل!.
هناك يستريح ويريح أعصابه وأفكاره الظلية.
وهنا بلغت النغمات الشقية رأس الظل، ودغدغت أذنه قليلًا ليضحك.
ودخلت عبره.
وشعر سمير الظل لأول مرة في حياته بالفواق!
النغمات المستفيضة اللذيذة تصنع الفواق يا سمير.
بكى سمير الظل كثيرًا.
لم يبلع شيئًا في حياته حتى يبلع النغمات!
إنها الهارمونيكا الملعونة المسؤولة عن هذا الفواق.
وأنها نوت إيقاظه من قيلولته المعتادة أسفل شجرة البلوط.
إنه ظل مسكين، لا يمكنه أن يشعر بالراحة.
بكى الظل أكثر إنه بحاجة للمساعدة، وأن تخرج هذه النغمات المجنونة من جسده وعقله، إنها نغمات مصنوعة من الشر، لا يمكنه أن ينجو منها إنه ظل!
وهو بحاجة لمن يعاونه في إخراج هذه النغمات المستفيضة المضيفة لفصل آخر من الإزعاج لحياته الظلية، أدرك إيليا أن الفواق يمكنه أن يتوقف إن توقف عن عزف الهارمونيكا.
فتوقف إيليا عن العزف ليس لأن النغمات المستفيضة عليها الرجوع إليه، أو حتى لا يعاني سمير من الفواق، لكن لأن السماء بدت أرجوانية واخترقتها أسراب الطيور السابحة نحو المدى دون منتهى.
مُزنة المسافر