تدور الأيام مسرعة بأحلام الطفولة التي أينعت وشبت عن الطوق ، وها هي أزهار الربيع أكملت تفتحها واحمرت تويجاتها ليفوح أريجها ولتعلن لأسراب النحل رشف ما فاض من الرحيق ، ثم تنتظر بواكير الفرح الآتي من ثنايا المستقبل الذي يكتنفه الأمل الممزوج بالوحل ، في تلك الليلة الخريفية وهي جالسة على الشرفة والريح تنوح مولولة بين الأشجار لمع سناء برق خطف الأبصار وأعقبه دوي رعد قاصف مزق الصمت المتوتر ، وبعينين نصف مغمضتين ، أخذت تتأمل حبات المطر وهي ترشق زجاج النافذة ، طاف بمخيلتها شريط من الذكريات يحكي عن معاناة من يقبع على أرصفة الانتظار بميعاد مع المجهول .
سنوات عجاف مرت وباب الدار يصفق في وجوه القادمين ودولاب العمر في دورانه لا يستطيع أحد إيقافه ، وحدها ترضع من ثدي البكاء ، جالسة بداخل نفق الانتظار وليست هناك شمعة أمل تنير الدرب للقادمين ، تنظر إلى الأفق المفجوع لقد فات الأوان وذلك المخيف متمدد في آخر الطريق ، والجسد لا يستطيع التحرر من نفسه برغم الرغبة المجنونة التي تكتسحه كل مساء ، ربما تصبح الأنثى عاطلة عن الأنوثة ، فجأة مس شغاف قلبها عبير أمل قادم لعله في سفر فيرجع إليها عما قريب ، وحيدة تجلس تحدث نفسها ، هذا الصيف المقبل عطشان ، هذا الجسد أجدب أين الربيع ، انحدرت من مقلتيها دمعة حرى ليخيم على المكان صمت رخيم حملها إلى عالم الأحلام الذي ظلت تنتظر بواكيره منذ زمن ، غير أن حالها كان يبدو أرق من الانتظار ، تزفر في ضيق نافرة من المكان الذي تحول إلى سجن لا تستطيع فيه تقرير مصير حياتها ، تغوص في جلستها شاكية في سرها كل ذلك الشقاء ، تحاول غمض جفنيها لعلها تحلم بشيء من الدفء والحنان ، تستيقظ فترى الملامح نفسها وتسمع الكلمات المشوهة نفسها ، لا تكاد تحلم بالأمان حتى تصحو من حلمها لتعود إلى واقعها المرير ، كانت تحلم بعش صغير يغني من الجوع الذي تعيش فيه خمساً وثلاثين سنة، كانت تحلم بالفارس الذي يحل ضيفا عزيز عليها في أي وقت يشاء ، فارس يرضى عنه أهل البيت ولكن أي فارس يستطيع أن يلقي بنفسه إلى التهلكة ويقتحم الحواجز والمتاريس وهو أعزل اليدين .
شيء ما يغلق حنجرتها وغصة طاعنة في الحلق تمنعها من البكاء ، تستدير ناحية المرآة تتوقف أمامها لبضع ثوان ثم تشيح بوجهها وتسير ناحية الكرسي الموجود بجوار النافذة ترمي عليه جسدها المحطم ، لم تكن تفكر في شيء غير الهروب ، وتنقطع الكهرباء ، يغمر المكان ظلام دامس سبقته عاصفة رعدية ، ينتابها خوف مفاجئ ، فقد بدأ نبض الأيام يتسارع ، وصدرها يضج بالأحزان ، وهذا الليل كتلة من ظلمة ورماد وآسى ، أخذت تدندن بأغنية كونية حزينة (حبيبي شايفك وأنت بعيد ، وأنا في الطريق السهد وحيد ، وكل خطوة في بعدك ليل ، وشوق وذكرى وجرح جديد ) تصمت .. فلا تسمع ألا صوت الشهيق والزفير يثقل أنفاسها ، تنزوي بنفسها في زوايا الليل ، لا شعوريا تعبث بخصلات شعرها المتناثرة على الكتفين اللذين أصبحا كأغصان شجرة نبق يابسة ، وتخيلت نفسها تمشي في الوديان وهي تحدث ظلها غير أن الظل صار شبحا يريد الفتك بها ، فيتهاوى الجسد العطشان ، ولا تزال الريح تنوح في أزقة القرية تدفن خاصرتها بين الأشجار ، تجري متعرية عند سفح الجبل ، أما هي فقد كانت تحبو على بطنها تحاول أن تجد لنفسها ركناً في هذه الحياة تعبث فيه كيفما تشاء تسافر في طرقاته ، تبكي ، تضحك ، إلى حين يداهمها النعاس ، غير أن الجراح النازفة وقد تخثر بعضها لما تطوى جوانحها بعد .
تنجلي العاصفة الرعدية ، يعود التيار الكهربائي إلى حالته الطبيعية ، ترفع رأسها فإذا بها تشاهد غابة من السيقان البشرية تتزاحم أمام عينيها ودقات أجراس تأت إلى مسامعها ، طلت تلك السيقان تهرول ، تتساقط ، لكنها تنهض مرة ثانية لتواصل الهروب ، أما هي فلا تزال جامدة في مكانها تراقب المشهد وما أن اختفت تلك الجموع حتى عاد الصمت من جديد ليلف المكان خوفا ورهبة وصوت لحن غجري يتردد في جوقات الليل وفي الأفق البعيد ، وردة ذابلة تنزف بالحزن وفي الغرفة أنفاس تتلاحق بشدة وعنف ، وكأن الروح على موعد مع الرحيل .
حاولت النهوض من الكرسي لكنها تفشل ، شعرت وكأن قيوداً تشل من حركتها، تكرر المحاولة ثانية وثالثة أخيرا تنجح وكان الخوف مترسبا على وجهها بفعل مصائب الزمن الذي جار على شبابها ، رعشة هزت كيانها تتحسس قلبها لتتأكد من قلبها لا يزال ينبض ولا تزال أنفاسها تصعد وتهبط تارة شهيقا وتارة زفيرا ، كل ليلة تمر برأسها شريط من الذكريات المؤلمة ، كانت حياتها تلالاً من الأحزان وعندما ينتصف الليل تمرر أصابع يديها على أنحاء جسدها ، وفي بعض أوقات الفراغ الخالية من التفكير كانت تهبها الرغبة في ممارسة الشيء المحرومة منه لتعطي الجسد قسطاً من الراحة التي خلق من أجلها ، ضحكت ساخرة ارتسمت على شفتيها ، أطلت برأسها من النافذة تحاول رؤية النجوم لكنها لم تشاهد غير سحب سوداء تنذر بهبوب عاصفة جديدة ، حانت لها التفاتة إلى تلك اللوحة السوداء المعلقة على جدار الغرفة ، تعجبت عندما رأتها مبتسمة ويحليها إطار ذهبي غير أن اللوحة كانت تنزف أو هكذا خيل لها ، حاولت انتزاعها من على الجدار غير أن شيئاً ما أجبرها على عدم فعل ذلك ، المكان الذي شهد التزاحم بين تلك السيقان الهاربة ، تشاهد وجهين يحترقان بتأثير قبلة حارة ، وشاب وفتاة لم يرهبهما ذلك الخوف وأجراس الإنذار ، ولم ترهبهما تلك الطقوس الجاهلية ، لأول مرة تبدو لها السماء متوهجة بلون يكاد يخطف الأبصار .
خمسة وثلاثين عاما والصدأ لا يزال يتراكم على قلبها ، تنتظر تعاقب الفصول الأربعة ومعها تنتظر الأمنيات المؤجلة والزمن يجري وقامتها الطويلة بدأت في الانحناء ، وتلك الغرفة شاهدة على بقايا إمرأة تحاول تكفين أحلامها بتلك الستائر الداكنة لكنها لا تستطيع فعل ذلك فقد طمرت إنسانيتها ولطخت بالوحل إرادتها فقط .. تتمنى لو أن أحد يسمعها تسر له بمشاعرها ، ويحل عقدة من لسانها حتى يفقه النائمون في المنزل بأمرها ، غير أن الجسد ظل حزيناً يبحث عن رفيق مجهول لكن مساحة الغرفة ليس بها غير فراغ يضيع فيه الصدى ، تحاول ترتيب أغطية الفراش، الليل ينتصف والرغبة تشتد للابحار .. تمددت تحت سقف الغرفة ، منكفأة على ذاتها متوشحة بالحزن الذي أتسع وأصبح بحجم المأساة .
بدر بن عبدالله بن حبيب الهادي
#عاشق_عمان