عن روايته الجديدة “شاجين” ودور الذاكرة في تاريخ الشعوب واستحالة التعبير عن الحاضر
ترجم هذا الجزء منه عن الروسية: يوسف نبيل –
يُعد يفجيني فودولاذكين واحدًا من أشهر كتّاب النثر الروس المعاصرين، وهو مؤلف الكتابين الأكثر مبيعًا: “لاوروس” –”الطيار” اللذين جلبا له جائزة “الكتاب الكبير”. تصدر كتب فودولاذكين الآن بـ (34) لغة ويُمثِّل صدور كل كتاب له الآن حدثًا كبيرًا. في نهاية أكتوبر نُشر كتاب فودولاذكين الجديد: “تشاجين” وتدور أحداث الرواية عن حافظ القوائم الفذ “إسيدور تشاجين” القادر على حفظ كميات هائلة من المعلومات، لكنه مجبر على تعلم نسيانها. حكى الكاتب في لقاء مع وكالة تاس عن عمله على هذه الرواية، وعن أفكاره المهيمنة المفضلة عن الزمن والذاكرة.
يفجيني جرمانوفيتش فودولاذكين، لم يمر وقت طويل بين إصدار روايتك السابقة “تبرير الجزيرة” وروايتك الحالية، متى بدأت العمل على “تشاجين”؟
كما تعلم لم يجلب لنا كوفيد المتاعب وحسب، بل وفّر لنا الفرصة للعمل من المنزل، وعدم الظهور كثيرًا أمام الجمهور. لقد حرّرني من مهام روتينية كثيرة بدت لي حتمية، الحياة عبارة عن قضاء وقت طويل في كثير من الأمور غير الضرورية، وسمح لي الوقت والطاقة المتوفران بالعمل لفترة أطول من المعتاد، ولذلك كتبت تشاجين في غضون عامين. عادة أستغرق في كتابة الرواية مدة تصل إلى ثلاثة أعوام ونصف، ويلزم هنا أن أضيف أن فكرة “تشاجين” كانت في ذهني بالفعل بينما أنهي “تبرير الجزيرة”، ولكن ليست بهذه التفاصيل بعينها.
•السؤال الأكثر شيوعًا ولكن لا يسعني ألا أسأله: كيف راودتك فكرة هذه الرواية الجديدة؟
إشكالية الذاكرة والوقت في ذهني منذ فترة طويلة، في الواقع تدور كل رواياتي حول التاريخ والذاكرة والوقت، والتاريخ هو ذكرى الماضي في غياب الذاكرة والتاريخ الشخصي أو تاريخ شعب ما، لا يمكن للشعب أو الفرد أن يوجد. يحدث أحيانًا أن يفقد الناس أو الشعوب ذاكرتهم عندما يحدث هذا لا يُنتظر حدوث أي شيء جيد في المستقبل.
ما الذاكرة؟ ليست صور بل تجربة، إنها فهم ما يحدث والمقتطف المستخلص من التجربة، إذا غابت لا يعود هناك شيء يمكن القيام به، وإذا مر شخص ما بالموقف ذاته (15) مرة ووطء محراك الجمر في كل مرة، فسيفكر في المرة السادسة عشرة وربما يتخطاها، وإلا سيضرب على جبهته في المرة السادسة عشرة، وكذلك في السادسة عشرة بعد المائة، وهذا شكل شديد الخطورة من أشكال الوجود.
أدركت أخيرًا أن الذاكرة موضوع يستحق الكتابة عنه، وحينها بدأت أقرأ الكتب عنها في البداية قرأت “كتاب صغير عن ذكرى كبيرة”، وهو الكتاب الشهير لأكسندر لوريا. أوردت في الرواية تفاصيل فسيولوجية عصبية دقيقة وليست سيرية حتى لا يكون هناك أي شيء مختلق. علاوة على ذلك استشرت متخصصين ووضحت لهم في محادثات دار بيننا تفاصيل محددة في العمل. أود أن أشكر عالم الفسيولوجيا العصبية ألكسندر كابلان، أحد أشهر باحثي الدماغ في العالم، والرائعة تاتيانا تشيرنيجوفسكايا التي تحدثت معها طويلا أيضًا، وأثّرت أفكارها وأقوالها بقوة على الرواية. ما قرأته وسمعته شكّل فكرتي عن النص وأثر عليه بالطبع بقوة.
•أنهيت “تشاجين” بينما تغير العالم من حولك تغيرًا تامًا لا رجعة فيه، هل أثّر كل ما حدث على عملك على هذه الرواية؟
كما تعرف أنا مؤلف يقف على مسافة ما من الواقع، لا لأني أخشى التلاؤم الدقيق معه، ولكن يبدو لي أن التحدث بجدية عن زمن أو آخر يتطلب بعض المسافة، ما يُقال أحيانًا عن حقبة ما أثناء مرورها تتبين سطحيته إلى حد ما، لا أدرى ما إذا كنت سأعكس الوقت الراهن بعد ذلك في عمل ما، ولكن في رواية “تشاجين” لم يحدث ذلك.
•قلت سابقًا أنك عندما بدأت كتابة “لاوروس” أردت أن تحكي عن إنسان قادر على التضحية، وفي “الطيار” حاولت أن تُشرك القارئ في فرحة الإبداع، وأن يصير مؤلفًا مشاركًا. ما رسالة الكتاب الجديد؟
أعتقد أني قدمت الرسالة في شكل أسئلة بصياغة هذه الأسئلة بالشكل الأكثر عمومية، وددت أن أقول الآتي: لكل الظواهر قطبان، إذا كان هناك قطب للذاكرة فلا بد أن يوجد قطب للنسيان، وإذا وُجِدت حقيقة فلا بد أن يوجد خيال، في الواقع لا توجد الحياة عند القطبين بل تتدفق في ما بينهما، ويحدث أن تتعطل هذه الآلية. إنسان لديه ذاكرة، ولكن يا لها من ذاكرة! لا ينسى، يزول التوازن الذي يضمنه وجود قطبين، ويبدأ الشخص في الالتواء مثل طائرة في مهب الريح، ويبدأ في الدوران ثم الاصطدام بالأرض. تتناول الرواية إذن خسارة القطب الثاني بمعنى ما.
علاوة على ذلك تناقش الرواية دور النسيان وما يقترن بذلك من خيال؛ فالخيال هو نوع من النسيان، وهو يحل محل الواقع. السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما هو الواقع؟ إذا تحدثنا عن الواقع التاريخي فلا أحد يعرف حقيقته في غالب الأحيان. لا نرى الحقيقة إلا عبر أعين المؤرخين الذين سجلوها، لكن هذا لا يحدث كنقطة في الفراغ، فلهؤلاء الناس آرائهم وعاداتهم وتقاليدهم.
أشرت بالفعل إلى البروفيسور كابلان، أخبرني ذات مرة أنه حتى رؤيتنا مُصمَّمة بحيث لا تعكس ما نراه بالضبط؛ لأن الصورة لا تتشكل عبر العين، بل بواسطة الدماغ، وأحيانًا يرسم الدماغ شيئا ما يجب أن يكون موجودًا وفقًا لتجربتنا، ولكنه لسبب ما غير موجود. يبدو الإدراك بهذه الطريقة كصورة نُقِّحت بقوة، والأمر ذاته ينطبق على ذاكرة الإنسان، ليس هذا ما حدث بالفعل، بل ما تمكن الرائي من رؤيته، سواء كان مؤرخًا أو شخصًا آخر، في بعض الأحيان يرى ما هو ليس كذلك، أو على النقيض، لا يرى ما هو موجود، ثمة ظروف كثيرة تؤثر بشدة على الصورة.
•كل كتاب لك يختلف عن السابق؛ خاصة في الأسلوب والنوع، ولكنه يحظى دائمًا بالمقروئية. هل تحاول فعل ذلك عمدًا؟
لا أتعمد فعل شيء معين لأجعل الرواية تبدو مختلفة، علاوة على ذلك لا أخشى التطرق إلى موضوعات تناولتها سابقًا وبعض الأفكار التي ذكرتها من قبل، بحيث أحاول بالبدء بها أن أفهم المشكلة بدرجة أقوى وأعمق، يبدو لي أنه بخلاف ذلك ستصعب الكتابة بشكل عام، تشبه الرواية في شكلها العظيم الحياة، في كل مرة أرى تكوين الرواية كعملية خلق عالم جديد، صحيح أنه عالم مؤلَّف صغير ولكنه عالم على أي حال.
•يدعونك كثيرًا بـ “أمبرتو إيكو الروسي”. ثمة اتجاه شائع بتحديد المؤلفين المحليين بأسماء مستمدة من الثقافة الغربية. مع كل الاحترام لأمبرتو إيكو، ولكن ألا تنزعج قليلا من مثل هذه المقارنات؟
من ناحية أجد هذا المسعى طبيعيًا في التحديد بشخص ما، يحدث ذلك في مرحلة يكون فيها الشخص مجهول. يسألون مثلا: كيف يكتب؟ ويُجاب: مثل أمبرتو إيكو أو كازو إيشيجورو أو فلان، فيما يتعلق بإيكو توجب علي بالفعل سرد هذه القصة المضحكة. أرادت ناشرتي الإيطالية أن تُعرِّفني على إيكو، كنا في المهرجان ذاته في بوردينوني، وهو مكان قريب من فينيسيا. طلبت مني أن أكتب إهداء له على كتابي وقدمتني إليه، من بين أمور أخرى ذكرتْ أنهم يطلقون علي “أمبرتو إيكو الروسي”، صافحني وقال: “أقدم لك تعازي”. تفاعل كلانا مع هذه التسمية بالقدر الكافي من الدعابة، أخبرته إنني أكن له احترامًا كبيرًا لما يفعله، لكنني أفعل شيئًا مختلفًا بعض الشيء، وهو مهتم بالتاريخ، أما أنا فمهتم بتاريخ الروح بحسب تعبير ليرمنتوف، والأمران مختلفان.