المتاهة.. المصطبغة بالبلاهة.. ربما بالسذاجة.. بالغفل والحمق.. بالسخف والسخط!
هل هذا هو الوجد الذي يتركك وحيدة وبعيدة عن كل الأشياء يا فريال؟
هل هو الذي ابتدع لك هذا الوهج.. الوهج الساكن لفؤادك العليل.
إنك عليلة يا فريال.
وأي علة هذه؟!
علّة سكنت وسط أفكارك، ونبتت بين أحشائك، إنه التيه الغريب المريب.. إنه الضياع الأكيد.. إنها الأحجية التي صرتي بها حائرة.. إنه اللغز الجديد، وأنتِ الآن فيه غائرة.
لقد حملك الرجل الوسيم بين أكتافه وأفكاره، بينما كان الجميع نيام، والبعض سهارى.
أغرقك هو في بركة الوجد، ونسج لقلبك خيوطًا.. خيوطًا محكمة ومفعمة بذات الوجد.
فصرتِ تعيشين وسط أحلامه وآماله، ونسيت الأصقاع البعيدة التليدة، وتلك الدنيا الجميلة الفريدة.
نسيت الرحالة الأحرار، وغيبتي أوتار التار، تذكري يا فريال تلك الأشعار، وتلك الأسفار.
تذكري العالم الذي كان واسعًا وسامعًا للمغنى والمعنى.
تذكري صِباك وطفولتك.
عودي يا فريال.. إلى الأغصان والأشجار.. إلى السهول والربوع.. إلى حيث كنتِ.
أين صرتِ يا فريال؟
لا يمكنك نسيان الأمس.. تذكري والدك برديا.. تذكري أحلامه السرمدية.. وعناقيده المهدية.
هل فؤادك صار يخفق للرجل الوسيم؟
في الماضي كانت تحركه أوتار التار، وكانت بيوته الكلمات والأشعار، وكانت رحلاته ماضية نحو الآفاق الغريبة، راحلة بين الدجى.. غائبة إلى أقصى مدى.
ماذا لو سأل برديا: أين أنتِ؟ وأين صرتِ يا فريال؟
هل هربتِ؟ وهل ستهربين من الوجد؟
حان الوقت أن تهربي يا فريال.
إنه الذبول.
والمثول لدنيا الملك.
ارفعي رأسك الحر. انظري نحو السماوات الغائبة خلف النجوم والغيوم.
إنه سم الوجد… إنه علقم الود… إنه البعد والنأي… إنه النسيان والصد… إنه الهروب… نحو الدروب.
اهربي يا فريال. واحكي للمتجولين والساكنين للطرقات والعربات.
ما جرى!
يا ترى ماذا جرى؟
طعن سمير الظل نفسه بالدبابيس، سيقتل روحه ويشنقها، ويأسرها ويطحنها بنفسه دون اللجوء إلى ملك الموت، ستطير روحه الظلية وتسير بعيدًا نحو الدروب.
إنه الهروب يا سمير.
لقد سأم من القيود، لن تبتلعه النمور أو الأسود، حتى ولو ضاع في الغابة، سيجعل من نفسه ظلًا حرًا، سابحًا نحو السماء والفضاء.
لن يعيش في البؤس والمكر.
كان هذا أكبر وكر.
يعيش وسطه وبينه.
سيعيش في المغارة.
في الكهف الذي تسكنه اللصوص الأربعين.
وسيحرر نفسه ويهيم.
دون أن يحتاج إلى إيليا أو وهبي؛ فكلاهما مصنوعان من الشرِّ.
وينسجان الشر ويقررانه للظل المسكين.
سيطعن نفسه بالسكين والدبابيس التي ستحرره من العيش الذليل.
إنه ظل عليل!
لم يعد سعيدًا وبهيجًا كما كان، صار ظلًا يسأم الأمور والأشياء. وقد رهل قلبه الظلي وشاخ.
وصارت طفولته الظلية اليوم منسية؛ حيث كان يسكن الواحات والصحاري البعيدة المديدة.
صار ظلًا عليلًا غير قادر على فهم الجُهنة.
الممتلئة بالصبيان واللصوص.. وبالمارقين لحيوات الظلال في العتمة.. وبالسارقين للراحة الوالجة للنفوس والبالغة للرؤوس.
هل أنت متأكد يا سمير أنك تريد الطعن والدفن؟ هل ترغب في غرز نفسك بالدبابيس؟
وأن يسكن رأسك دبوس عظيم.
يجعل من ذاتك عليلة وغريبة عن ما كانت!
إنه الموت أيها الظل المسكين… إنه البعد والصد… إنه شيء لا يشبه الحياة… إنه لا يشبه الكون الفسيح الوسيع… إنه شيء لا يشبه مياه الواحات الباردة… إنه لا يشبه النوم، والأحلام الغائبة والشاردة.
إنه لا يشبه الضياع أو الحصول… إنه لا يشبه الخضوع أو المثول… للملك أو للوجد.
إنه الرحيل الأخير.
فهل سترحل يا سمير ببضع دبابيس.
هل ستترك الدنيا الفريدة الجميلة السعيدة؛ حيث دنيا الظلال، المسكونة بالجمال والدلال؟!
مُزنة المسافر