عنوان مقالي قد يُفهم حسب فِكر القارئ قبل أن يتوجه لسطوره، فقد يقرأ البعض العنوان ظناً منه أني أعني مصطلحاً اقتصادياً أو مفهوماً أخلاقياً أو أعني أكلةً شعبيةً، ففي الفلسفة تعدّ القيم جزءاً من الأخلاق، ويمكن تعريفها بأنها مفاهيم تختص بغايات يسعى إليها الفرد كغايات جديرة بالرغبة سواء كانت هذه الغايات تطلب لذاتها أو لغايات أبعد منها، أما في الاقتصاد فالقيمة مقدار ما تضيفه السلع والخدمات إلى الأشياء، والقيمة في علم النفس شيء مهم بحياة الإنسان، وهي التي توجه وترشد السلوك الإنسانيّ.
ورغم تنّوع معاني هذه الكلمة وتعدّد استخداماتها فإن المقصود هنا قيمة الشيء ذاته سواء كان فرداً أو عملاً أو تضحيةً أو كلمةً أو حضوراً، فلماذا لا يدرك الإنسان قيمة الأشياء من حوله إلا حين يفقدها؟! كثيراً ما يدور في ذهني هذا السؤال، فهل الاعتياد على الشيء سبب رئيسي في عدم استشعارنا قيمته الحقيقية؟، أعني تلك الامتيازات التي ننعم بها فضلًا من الله وتحيطنا بالأمن والصحبة والنِّعم والبركة وكل ما من شأنه أن يبعث الدفء والاستقرار لأنفسنا.. في هذه الحياة نحن مدينون للمولى سبحانه بالحمد والشكر والثناء على عظيم عطائه وفضله من جهة، وعلى نعمة إدراكنا لقيمة ما لدينا من النعم. إنّ أكثر الناس كياسة من استشعر قيمة ما يملك دون أن يفقده، وإنّ أكثرهم غفلةً وحسرةً ولوعة هو من لم يستشعر النعم إلا حال فقدها.. وأكثر الناس على خطر من يرفلُ بنِعم الله من كل جهة وهو لاهٍ وغافل عن شكر الله والحفاظ عليها.
وفى الحقيقة يوجد العديد من الأشياء التي لا يمكن قياس قيمتها، لأن قيمتها تختلف من شخص لآخر، فبعض المشاعر عند البعض أحياناً لها قيمة كبيرة وعند البعض الآخر ليس لها أي قيمة، فالحب فمثلا يمكن أن يمثل لبعض الأشخاص قيمة كبيرة وغالية، وعند البعض الآخر لا يمثل أي شيء أو على الأقل قيمته ليست بكبيرة وغيره العديد من الأشياء التي تقاس بتلك الطريقة، ولكن لماذا هذه المعاني تختلف قيمتها من شخص لأخر؟ بل ويمكن أن تتغير قيمة تلك الأشياء عند نفس الشخص أيضاً من وقت لآخر؟
إن القيمة كلمة مرنة ليست لها أسس ثابتة، فمن يشعر بالتقدير مثلاً تصبح قيمة هذا التقدير غالية بالنسبة له، ومن يشعر بالامتنان تصبح أيضا قيمته كبيرة، ولكن إذا لم تشعر يوما بالتقدير أو الامتنان فلن تكون لها قيمة بالنسبة لك لأنك لم تشعر بها يوماً فلن تستطيع تقدير قيمتها.
ولعل إحدى الحقائق التي علينا الاعتراف بها، أن الإنسان غالباً يرى الأشياء كما يريدها وليس كما هي، فالإنسان يملك ذاكرة قصيرة بل مثقوبة، يضفي معاني وقيمة، ويصدق نفسه، ويعتقد أنها هي الحقيقة أو على الأقل عقله الباطن وأمنياته الوردية تُصور له ذلك، وهناك مصالح وغايات وراء إضافة هذه المعاني والقيم، وما نراه ذا قيمة وأهمية، يراه آخرون من غير أهمية أو قيمة، مع أنه المنتج عينه.
قد يتفق البعض مع عبارة أننا “نحن من نحدِّد قيمة الأشياء وليست هي التي تحدِّد قيمتنا”، فهل للأشياء قيمة حقيقية أم نحن الذين نضع قيمة للأشياء؟، هو سؤالٌ بسيط لكنه عميق فقد بالغ الإنسان في تقدير قيمة الأشياء حتى أصبح يراها ذات قيمة أكثر منه، وشرع الأشخاص في التنافس على امتلاك الأشياء كأنها هي التي تحدد قيمتهم، على الرغم من أنهم هم الذين يعطونها تلك القيمة، إذ إن قيمة الإنسان لا تتحدَّدُ بمقدار ما يَملك، بل تتحدَّد بِصدقه وتديُّنه وتعامله مع الآخرين وما يفعله من أجل نفسه ومن أجلهم وقيامه بواجباته، وتتحدَّد بالعطاء عند الغِنى والعفة عند الفقر والمسامحة عند القدرة ونفع الآخرين.
ولابد هنا أن نعود إلى مصطلح القيمة فهناك قيمة المال وقيمة الحرية وقيمة الإنسان، وقيمة الأشياء، ومن المفزع أن تسود قيمة الأشياء على قيمة الإنسان في يوم يسود فيه إعلاء الإنسانية في جميع أنحاء العالم، فقيمة الأشياء حينما تسود يتحول فيها المرء أو قل الإنسان هنا إلى شيء والتشيؤ هو حينما يكون الإنسان سلعة يخضع لسلطة المال فيقع تحت هذه السلطة القاهرة التي تحدد مكانته، ودعوني أطرح سؤالاً جانبياً، قيمة الإنسان أليست بحسب إنتاجه ونشاطه المجتمعي والمهني وجودة ما ينتج؟
ولعل الاستشهاد هنا بما قاله الرافعي مُنصفٌ لمن يُقدر قيمة ما يُعطى او يُقدم، فقد قال “وَإِنِّمَا قِيمَةِ الأَشيَاءِ بِمَا فِيهَا مِن أَثَرِ القَلب، أَو بِمَا لَهَا فِي القَلبِ مِن أَثَر”.
وقد نقف لثانيةٍ في سطور المقال ونسأل، هل معنى ذلك أن الناس متساوون في القيمة طالما أن الكل يمتلك العقل ويمتلك الإرادة الحرة؟ إن الجميع لا يستخدم عقله بالشكل الصحيح، ولا إرادته بالطريقة الصحيحة التي تؤهله لمقامه فعلاً، فهناك فرق بين الإنسان كمفهوم والإنسان كمثال، فأنا وأنت وجميع الناس أمثلة لمفهوم الإنسان، ومفهوم الإنسان هو الصورة التامة المفترض أن يتكامل الإنسان في حياته للوصول إليها، إذاً الإجابة بالطبع لا.
ولتكن إنسانيتك ثابتة ولا تتزعزع طالما تسير في طريق تكاملك وفق إطار قدراتك وظروفك، وقيمتك تكون بمدى سعيك لتحقيق أقصى استخدام سليم لعقلك ومدى اتباعك الحر للحق وعملك الحر للخير.
لذلك الختام هنا هو رسالةٌ صغيرةٌ من القلب تقول: أدركوا قيمة الأشياء قبل زوالها، فإن كثيرًا من الأشياء إذا زالت فلا سبيل لرجعتها أبداً، ولا تنس قارئي العزيز أن قيمتك لا تتحدد من خلال عيون من حولك، فربما يعاني من يُحددها ضعفاً في البصر أو كان أعمى بصيرة، فلا يُخالجك هنا شعور القيمة صفر لذاتك.
أخيراً:
لا تظلم نفسك وتعلق قيمتها بما لا يليق بها، ولا تضيع فرصة تحقيق قيمتك الحقيقية كإنسان.
ابتسام الحبيل