– لا أفضَّل وضع نفسي في صندوقٍ.. خاصة مع وجود أفكار خارجه
– حجم الرواية يوهم بالعمق والجديّة أكثر لدى القراء
– القصة القصيرة كالبرق عليك أن تكون متيقظاً لتشهدها
– من يكتب القصة غالبًا لا يكون مهمومًا بالشهرة والسمعة
– كل هذه الكتب من حولنا هي محاولاتنا الفاشلة لكتابة ذواتنا
يمتلك الكاتب الكويتي فيصل الحبيني تجربة كتابية مميزة، إذ أصدر كتاباً بعنوان «كائن يمرح في العدم» دون أن يصنفه إلى قصة أو رواية، وهو تجربة سردية مختلفة، فيها من الشعر، وفيها من القصة، وكذلك فيها من الفلسفة.
فيصل الذي يعد أحد كتاَّب الألفية الجديدة في الكويت امتلك في هذا العمل، وكذلك في مجموعته القصصية «أبناء الأزمنة الأخيرة» قدرة على صياغة أفكار مختلفة، عن الحب والموت والعدم والوجود. فكرة الوجود نفسها هي شغله الشاغل وسؤاله الأكثر إلحاحاً وأهمية. في هذا الحوار يتحدث فيصل الحبيني عن تجربته في الكتابة ورؤيته للنص المفتوح والفارق الشاسع بين القصة والرواية.
دعنا نبدأ من كتابك «كائن يمرح في العدم».. هل سبب عدم تصنيفه إلى قصة أو رواية هو أنك لم تكتب نصوصه على مقاس الأنواع المعروفة؟
الكتابة هي إرادتنا لقول شيءٍ ما، والجنس الأدبي مجرد وسيلة لفعل ذلك. عندما أشرع لكتابة عملٍ ما، أنطلق من الفكرة أولًا، ثم أفكر في الجنس الأدبي الذي أستطيع من خلاله التعبير عن تلك الفكرة. لا يمكن لـ «كائن يمرح في العدم» أن يظهر إلا بهذا الشكل. ولم أتمكن من التعبير عن فكرة «أبناء الأزمنة الأخيرة» إلا من خلال فن القصة القصيرة. قد ينطلق كاتبٌ ما من الجنس الأدبي، إلا أنني أعتقد أن الفنان لا تشغله الأداة على حساب الفكرة، والجنس الأدبي مجرد أداة، لا أكثر.
هل تجد نفسك في الكتابة المفتوحة أم في القصة القصيرة أكثر؟
لا أحد منهما. أجد نفسي كيفما يلائم الفكرة لأن تظهر. لا أحبذ وضع نفسي في صندوقٍ في حين أنني أستطيع أن ألمح أفكارًا خارجه. أفضّل أن أتبع تلك الفكرة حيثما تأخذني، وإن تطلّب ذلك مني تعلّم جنس فني جديد لكي أستطيع الوصول للفكرة.
النص الأول من الكتاب يفسِّر العذاب الذي يمكن أن يعيشه الفرد بإدراكه التام لوجوده البائس.. لماذا انطلقت من هذا التصور الرافض للوجود؟
أظن أن الكائن وجد في العدم منهجًا من شأنه أن يهدئ من روعه الوجودي. رفضه أتى من تخيّله أن الوجود يشبه الزنزانة – تلك التي سقفها السماء على حد قوله – دون معرفته بالذنب الذي ارتكبه حتى يتواجد هنا. وفكرة السجن أتت ربما من استطاعة الكائن على التخيّل والحلم، وربما الإيمان.
لماذا حكم بطلك بأن جهد الفلاسفة يضيع هدراً وهم يحاولون إثبات وجودنا؟
أظن أن الكائن عاطفي أكثر من أن يؤمن بالمنهج المنطقي للفلاسفة، رغم أنه يحاول أحيانًا اتخاذ نفس المنهج لإثبات مشاعره وما يؤمن به. فهو لا يرفضه، ولكن يرفض ربما التحيز له في المسائل الغيبية والوجودية، خاصة تلك التي تلامس العاطفة مباشرةً.
النصوص الأربعة في الكتاب لا تهتم بالحبكة أو الحكاية وكل ما نراه عن أشخاصها مجرد جمل متناثرة كأن نعرف أن لأحدهم أربعة أخوة ماتوا أو أن يكون عمر آخر 25 عاماً، إلخ.. لماذا أدرت ظهرك للحكاية؟
نستخدم أحيانًا الحكاية لقول شيءٍ ما، ولكن ما أردت قوله هنا احتاج للشعر أكثر. أظن أنني استقصدت غياب الحكاية لكي تكون رحلة الكائن في الكتاب – من الولادة وحتى الموت – هي حكاية قارئه، لا كاتبه.
بمناسبة الشعر.. هناك طموح شعري كبير في النصوص، حيث تشبه الأناشيد، وفيها الكثير من اللغة المتدفقة والغنائية والحزن.. هل تتفق معي في ذلك؟
أظن أن تناولنا لمفهوم الوجود يميل للشعريّة أكثر من غيره، ولذا كان على النص أن يخرج بهذا الشكل تحديدًا، وهي الطريقة ذاتها المتخذة من قبل المناهج وطرق التعبير التي ذكرتها. وهذا لا يعكس طبيعة الكون بالضرورة، أكثر من ما هو يعكسنا نحن، والكيفية التي نتناول بها هذه المسائل.
النصوص كذلك أميل إلى تفسير الحياة والعدم والوجود والنهاية.. هل كنت تقصد أن تسيطر عليها روح فلسفية أم أن التجربة فرضت هذه الروح؟
أفترض أن التجربة هي ما فرضت الروح الشعرية والفلسفية في النصوص. إنه نصٌ انفعاليّ يحاول أن يناقش أسئلةً فلسفية بروحٍ شعرية. إنها تجربة لم أرغب في أن أخضعها لتيمة معينة، ولكن كان عليَّ أنا من يخضع لتيمة العمل نفسه، والتواطؤ معه.
هل تتفق مع بطلك على أن «الزمن تابوت يقع الإنسان فيه»؟
أنا متأكد بأن للكائن عدة تشابيه صوَّر بها الزمن على طول هذا النص. إنه أكثر موضوعات الوجود شعريةً، أقصد الزمن. ولذا فهو أحد تلك الأفكار التي كيفما صغتها، بأي طريقة شعرية، لن تستطيع أن تتفق معها أو ترفضها، بقدر ما تقيس حساسيتك فور استماعك لها.
تقول دائماً إنك تجد نفسك في أي شيء له علاقة بالموت والألم.. هل هذا هو ما حكم رؤيتك لهذا العمل؟
الألم والموت أتيا كسبب وغاية للكائن. وهما للمحركان وراء كل كلمة قالها الكائن على طول نشيده. ربما وجود فكرة الموت هي ما كانت تطمئن الكائن كلما شعر بالألم؛ مهما كان شكل الموت الذي يؤمن به، عدمًا كان أم بدايةً لشيءٍ آخر. المهم أنه نهايةٌ للشيء الحالي، الشيء الذي يسبب له الألم.
لماذا ترى أن حجم الرواية الأضخم نسبياً مقارنة بالمجموعة القصصية يجعلها مقنعة تسويقياً؟
ثمة أسبابٌ عدة تقف وراء ذلك. أحدها الحجم كما ذكرت. نعم أظن بأن حجم الرواية المادي يوهم بالعمق والجديّة أكثر لدى القراء، أكثر من ما تفعله القصة القصيرة. والسبب الآخر – وهو الأهم – أن القصة القصيرة تحتاج ذهنًا يقظًا ومتمرسًا أكثر مما تحتاجه الرواية للولوج إلى عوالمها. القصة القصيرة كالبرق، تحدث بسرعة، ولذا عليك أن تكون متيقظًا أكثر لتشهدها، بينما الرواية تشبه الغروب. إنها مشهد هائل يتطلب منك التأمل البطيء والطويل لإعطاء المشهد حقه. وهذا على سبيل التعميم، إذ أن الحال ليست كذلك على الدوام.
ولماذا ترى أن كلمة «مجموعة» تعطي إيحاء بأنها قليلة الحيلة؟
معالجة الحكاية روائيًا تتطلب نفسًا ووقتًا أطول لكي تُسرد. أما قصص المجموعة فتعطي إيحاء بأن على بعضها البعض أن تتكاتف معًا ليتم تبرير شرعية نشرها معًا ككتاب، بينما الرواية، بحكايتها الواحدة، لا تحتاج لحكايةٍ أخرى تسندها لكي تُنشر في كتاب.
هل أفاد القصة تخلصها مما تسميه بالشوائب التسويقية؟
ابتعاد الجماهيرية عن القصة القصيرة لا شك بأنه أبعد كل بواغي الشهرة من الانخراط في هذا الجنس الأدبي. وإذا نظرت إلى سوق الرواية، الآن، فلن ترى الجدية ذاتها التي يمكن أن تلاحظها في سوق القصة القصيرة مثلًا. عدم انتشار القصة جعلنا نفترض أن من يكتب القصة غالبًا لا يكون مهمومًا بالشهرة والسمعة، بل على العكس يتسم بالجدية والإيمان بهذا الفن بسبب اختياره له رغم هجر القراء له.
تحب السفر كثيراً.. فهل يساعدك على فكرة التأمل أكثر في الوجود والبشر وعاداتهم؟
سافرت مرة لشمال إيطاليا وسكنت في كوخٍ في أحد وديان محافظة بولزانوا لمدة ثلاثة أسابيع للاختلاء والكتابة. كنت أصعد الجبل كل يوم وأنزل لمكانٍ مختلف وقرية مختلفة. كان النظر في صفحة السماء أجمل بكثير من النظر في صفحة الكتابة البيضاء. رجعت من تلك الرحلة دون أكتب كلمةً واحدة. وعندما سألت نفسي عن السبب، وجدت بأن الحياة كانت أجمل من أمارس بها الكتابة. وهنا فهمتُ نفسي ككاتبٍ أكثر. الراحة والرضا لا يدفعانني للكتابة التي كنت أمارسها دومًا. فالكتابة لديَّ احتجاجٌ، مقاضاة للعالم، ومساءلته على كل ما جعلنا نطمئن للنظر في صفحةٍ بيضاء فارغة.
وما الذي تطمح إليه أخيراً في الكتابة؟
لا أملك مخططًا كبيرًا لشخصي ككاتب – وذلك لأنني أستخدم الكتابة كوسيلة للتعبير، عوضًا عن اتخاذها كهوية ووسيلة لتحقيق الأسطورة الشخصية. كل كتاب له غايته، ولكل عملٍ طموحه الشخصي؛ وأنا هنا لمساعدة العمل على فعل ذلك، على الظهور. وكل عمل هو جزء من المرء، جزء من الذات. نحاول كتابته، ولكننا نفشل بذلك دائمًا. والآن، ما الجمال في الفشل في كتابة الذات تمامًا؟ الكتابة عن الذات، هي مخطط لتدمير الذات، وخلق أخرى، قناع. فالكتابة عن النفس ليست بكشف، بل خلق، خلق ذات ليست بذاتك فعلًا، بل صورة أخرى «قد» تكون لها صلة بذاتنا، هذا إن وجدت أساسًا هذه الصلة، وإن وجدت، فهي لا تكون صلة ذات علاقة وليدة أو ممتدة، ولكنها علاقة حميمية تشبه الإلهام والحلم. كأنك تكتب ذاتًا مستلهمة من ذاتك، أو ذاتًا تحلم أن تكونها ذاتك، وإن كانت الذات التي كتبتها ليست جميلة لذلك الحد، ولكنك تحلم أن تكون على الأقل بهذا الوضوح الذي يرسيه تتابع الكلمات أمامك، تحلم أن تكون ذاتك بهذه البلاغة، بهذا الترتيب الهندسي والجمالي الذي رتبت به عباراتك، والأهم من ذلك، أن لك سلطة عليه، سلطة على ذاتك المكتوبة والمزعومة، وهو شيء نفتقده كثيرًا في حياتنا. ولكنك تعلم جيدًا أنك لست هذا، لست النص، لست تتابع هذه الكلمات والفواصل، بل أنت شيء آخر، شيء يحلم أن يكون هذا، شيء يكتب نفسه، ويفشل، إلا أنه يسعد بذلك، لأنه خلق نصًا جميلًا.
كل هذه الكتب من حولنا، كل هذه المكتبات الجميلة والأخاذة، هي محاولاتنا الفاشلة في كتابة ذواتنا.