قليلة هي الوظائف التي من المؤكد أنها تشيب الرأس بأسرع مما تفعل به ذلك إدارةُ عملياتٍ لشركة متعددة الجنسية في الصين. فالمناكفات الدبلوماسية ومقاطعات المستهلكين من بين مخاطرها. وسياسة صفر كوفيد التي تسببت في إغلاقات محلية متقطعة كالإغلاق الذي بدأ مؤخرا في مدينة جوانغتشو الجنوبية عرقلت سلاسل التوريد وجعلت الصين بلدا غير مضياف للمدراء الأجانب. كما تضيف القوة العاملة المناكفة هناك المزيد إلى المتاعب. ففي 23 نوفمبر اندلعت أعمال شغب حول الأجور وشروط العمل في المصنع الرئيسي الذي ينتج هواتف آبل (آيفون) في الصين. وفي استطلاع للغرفة الأوروبية في الصين ذكر 60% من أعضائها أن بيئة الأعمال هناك أصبحت أكثر تحديا.
سوق مهمة
أحد الحلول المتاحة للشركات العالمية في مواجهة ذلك تقليلُ اعتمادِها على الصين في التصنيع. لقد سعى بعضها فعلا إلى تنويع سلاسل التوريد بعيدا عنها. فشركات من بينها آبل وهاسبرو التي تصنع لعب الأطفال مدّدت عملياتها الإنتاجية إلى فيتنام والهند حيث تقل الأجور وحيث من المحتمل أن تكون البيئة التشغيلية أقل استثارة للصداع. كما صارت بنجلاديش وماليزيا أكثر جاذبية لمنتجي الملبوسات. لكن الصين بالنسبة للعديد من الشركات المتعددة الجنسية تزيد عن كونها مجرد مكان رخيص لصناعة الأشياء. وهنا تتموضع المشكلة العويصة. فسكان الصين (1.4 بليون نسمة) الذين تتحسن أوضاعهم المادية باطراد يشترون الآن ربع مبيعات العالم من الملابس وما يقرب من ثلث المجوهرات والحقائب اليدوية وحوالي 40% من السيارات وحصة كبيرة من الأغذية المعلبة ومنتجات التجميل والمواد الصيدلانية والإلكترونيات وغير ذلك. وتجعلها قاعدتها الصناعية العملاقة أكبر سوق في العالم لأدوات الآلات والمواد الكيماوية. وصناعتها الإنشائية أكبر مشترٍ لمعدات البناء لسنوات. وعلى الرغم من أن 2800 جهة عارضة من 145 بلدا جاءت مؤخرا لترويج منتجاتها في المعرض الدولي للواردات في شنغهاي إلا أن انفتاح الشركات العالمية تجاه الصين يبدو في مجمله متواضعا. فمشتريات الصين من كل الشركات الأمريكية المدرجة تشكل 4% فقط من مبيعاتها، بحسب بنك الاستثمار مورجان ستانلي. وبالنسبة للشركات اليابانية والأوروبية تبلغ هذه النسبة 6% و8% على التوالي. مع ذلك هنالك مجموعة من الشركات التي تشكل الصين أهمية كبيرة لها. حللت الإيكونومست وضع شركات متعددة الجنسية من الولايات المتحدة وأوروبا واليابان تكشف عن مبيعاتها في المملكة الوسطى واستخدمت في تحليلها بيانات من بلومبيرج. وجدت أن أكبر 200 شركة من بين هذه الشركات حصلت على 700 بليون دولار هناك في العام الماضي أوما يشكل 13% من مبيعاتها العالمية وذلك ارتفاعا من 368 بليون دولار أو 9% من مبيعاتها قبل خمسة أعوام. من جملة هذه الإيرادات شكلت النسبة التي حققتها شركات المعدات التكنولوجية 30% والشركات التي تتعامل مع المستهلكين 26% والشركات الصناعية 22%. وأفصحت حوالي 13 شركة متعددة الجنسية عن إيرادات تزيد عن 10 بليون دولار سنويا في الصين من بينها شركات آبل وبي ام دبليو وانتل وسيمنز وتيسلا ووال مارت. هنالك مجموعة فرعية غير محظوظة من الشركات متعددة الجنسية التي تعمل في الصين. فقد وجدت نفسها وسط تبادل النيران الجيوسياسية. في قائمتنا (قائمة الشركات التي حللتها الإيكونومست- المترجم) تعمل 22 شركة في تجارة أشباه الموصلات. وستتضرر مبيعات العديد منها بسبب الحظر الأمريكي على بيع الرقائق المتقدمة ومعدات صناعة الرقائق إلى الصين. ولأن هذه الشركات تحصل على 30% من ايراداتها في المتوسط من الصين سيكون تكيفها مع هذا الحظر مؤلما. مع اهتزاز العلاقات بين الصين والغرب وبشكل ملحوظ حول قضية تايوان تضع الشركات المتعددة الجنسية حتى تلك التي تعمل خارج ما يسمي “القطاعات الإستراتيجية” خططا طارئة تحسبا لعالم ينغلق فيه باب تعاملها مع الصين. وبالنسبة شركات عديدة صار الوضع أسوأ بازدياد التنافس مع الشركات المحلية.
موقف المبيعات
تواصل شركات صناعة السيارات الفاخرة مثل بي إم دبليو ومرسيدس بينز نموها بقوة في الصين. لكن المبيعات من شركات السيارات المتوسطة السعر مثل فولكسواجن وجنرال موتورز تتراجع مع التوسع السريع لمنافساتها المحلية مثل شركتي شيري وبي واي دي. كما تتوقف مبيعات علامة نايكي للأزياء الرياضية عن النمو مع ازدياد شعبية منافستيها المحليتين “لي- نينج” و”آنتا”. بذات القدر توقفت مبيعات شركة منتجات التجميل الكورية “آمورباسيفيك” مع احتدام المنافسة مع منتجات العلامات الصينية المتوسطة السعر مثل “وينونا”. وتفقد شركات صناعة معدات البناء مثل كاتربيلر وهيتاشي المبيعات لسببين هما ارتفاع المنافسة وتراجع الإنشاءات. في تحليل الإيكونومست لعشرين صناعة بها وجود مقدر للشركات المتعددة الجنسية فقدت الشركات الأجنبية حصصا في 14 صناعة خلال السنوات الثلاثة الماضية. هنالك سببان لذلك. أولهما فقدان العلامات التجارية الأجنبية لبريقها. وهو عامل مهم خصوصا بالنسبة للسلع الاستهلاكية. يقول ويرن- يوين تان مسؤول آسيا والمحيط الهادي بشركة الأغذية والمشروبات “بيبسيكو” أن معرفة تصميم المنتجات وإيجاد الطلب في السوق منح شركات السلع الاستهلاكية المتعددة الجنسية ميزة تنافسية. وبمراقبتها والتعلم منها إن لم نقل اصطياد كفاءاتها بدأت الشركات المحلية في تجسير الفجوة (بينها وبين الشركات الأجنبية.)
المستهلك الصيني بدأ يتغير أيضا. فالعديدون الآن يفضلون المنتجات التي تتضمن صورا ثقافية صينية متميزة. وهذه ظاهرة يطلقون عليها “جوتشاو” وتعني حرفيا الموضة القومية. وما كان قد بدأ بمجموعة أزياء تتمحور حول الصين قدمتها شركة لي- نينغ في أسبوع الموضة في نيويورك عام 2018 تمدد ليشمل كل شيء من المكياج إلى الحساء.
تتفاوت حظوظ العلامات التجارية الأجنبية بين النجاح والفشل في تضمين الثقافة الصينية في منتجاتها. فمشروب البيبسي بنكهة نبتة “أوسمانثوس” كان ناجحا. وأقل شعبية منه سلسلة من الأحذية الخفيفة من شركة نايكي منقوش عليهما حرفان صينيان ترجمة أحدهما “أن تصير ثريا” والثاني ” الثروة” لكن ترجمتهما معا “أن تصير بدينا.” نايكي وشركات أجنبية أخرى أيضا أضرَّت بنفسها بالتعبير عن قلقها من تعامل الصين “الوحشي” مع أقليتها من قومية اليوغور في تشينيانج.
السبب الثاني لمتاعب الشركات المتعددة الجنسية خصوصا في قطاع الصناعات الثقيلة تقلُّص ميزتها التكنولوجية. الإستراتيجية التي تَتَّبِعها الشركات الصينية هي الدخول الى السوق بدءا بالشق الخاص بالسلع الرخيصة والقابلة للإحلال ثم الارتقاء الى طرح السلع الأغلى مع اكتسابها المزيد من الخبرة التصنيعية، حسب ويوين هان رئيس فرع شركة “بين” الاستشارية في الصين. وهذا ما يساعد على تفسير معاناة شركة فولكسواجن ودفعِ الشركات الأجنبية تنشط في قطاعات تمتد من معدات البناء إلى أدوات الآلات إلى سوق السلع المميزة.” لا شيء مفاجئ في ذلك. فعندما سعت الشركات الأجنبية في البداية للاستثمار في الصين في أوائل الثمانينات كان يُشترَط عليها الدخول في مشروعات مشتركة مع الشركات الصينية في قطاعات مثل صناعة السيارات والآليات. وكان ذلك أشبه بصفقة فاوست (الذي حسب الأسطورة الألمانية باع روحه للشيطان مقابل أن يحقق له الشيطان كل رغباته – المترجم) حيث تكتسب الشركات المحلية تدريجيا الخبرة الهندسية الأجنبية. وحقيقة أن الصين تخفف الآن من تشددها إزاء متطلبات الاستثمارات المشتركة في الوقت الحاضر تشير إلى أنها لم تعد تخشى من الميزة التكنولوجية للغرباء.
ثلاث خيارات
التحدي المتعاظم من الشركات المحلية يضع نظيراتها المتعددة الجنسية في موقف صعب. فالحفاظ على التنافسية في الصين يتطلب زيادة الاستثمار مع تصاعد المخاطر الجيوسياسية. في الوقت الحالي ليس لدي معظم هذه الشركات ما تفعله. فمن بين 200 شركة حللت الإيكونومست أداءها حققت 144 شركة نموا في الصين خلال الأعوام الثلاثة الماضية. لكن مع مرور الوقت سيصير الوضع أكثر تعقيدا. تفتقر الصين إلى خبرة تصنيع طائراتها التجارية الكبيرة الخاصة بها مع سيطرة بوينج وايرباص على هذه الصناعة. في معرض للطيران في 8 نوفمبر دشنت كوماك وهي شركة محلية طائرة الركاب سي919 للرحلات القصيرة والتي طال انتظارها. وستبدأ عما قريب في تسليم الطلبيات الخاصة بالناقلات الصينية من هذه الطائرة. وسيطرت الشركات الغربية مثل إل في ام اتش وهيرميس لأعوام على سوق الأزياء الفاخرة في الصين. لكن شركات محلية منافسة مثل شانغ شيا تكتسب زخما. مثل هذه المنافسات تجبر الشركات الأجنبية على مواجهة السؤال المربك بشأن مستقبلها في الأجل الطويل في الصين. هذه الشركات يلزمها الاختيار بين ثلاث مسارات هي: تصفية استثماراتها أو فك شراكاتها أو مضاعفة رهانها.
التخلص من الاستثمار خيار لدي بعض الشركات. فسلسلة متاجر السوبر ماركت الفرنسية “كارفور” باعت 80% من متاجرها في الصين لشركة التجزئة المحلية “سونينغ دوت كوم” في عام 2019 وبعد ما يزيد عن عقدين من دخولها الصين. وشركة التجزئة الأمريكية للملابس (جاب) أعلنت في 8 نوفمبر أنها ستتخلى عن نشاطها التجاري في الصين لشركة تجارة الكترونية محلية. تصفية الاستثمار وهو لايزال مربحا بعض الشيء ربما سيكون الخيار المفضل للشركات التي فقدت ميزتها على المنافسين المحليين ويمكنها البقاء بدون الصين. فك الارتباط هو الاحتمال الثاني. فشركة “يم! براندز” التي تملك كنتاكي وحقوق امتياز وجبات سريعة أخرى فصلت عملياتها في الصين عام 2016 لتمكينها من مواءمة نفسها بسهولة أكثر مع الظروف المحلية. في العام التالي فعلت مكدونالد نفس الشيء. تنطوي تلك الإستراتيجية على ميزة إضافية وهي تبسيط أية إجراءات انفصال تنشأ عن توتر جيوسياسي مع تمكين العمل التجاري المحلي في الوقت الحالي من استخدام العلامات التجارية وحقوق الملكية الفكرية الأخرى للشركة الأم. لكن هذا المسار سيكون مجديا فقط في الحالات التي يمكن فيها إدارة العمل التجاري في الصين كوحدة قائمة بذاتها. وهذا مستبعد بالنسبة لشركات مثل بوينج وال في ام اتش التي تعتمد على التصنيع في الخارج.
الخيار الثالث للشركات الأجنبية التفكير في تعزيز استثماراتها. كشفت مجموعة سيمينز الصناعية الألمانية مؤخرا عن زيادة استثماراتها وتحويل جزء كبير من أعمال البحث والتطوير إلى الصين “من أجل التغلب على الشركات المحلية”، حسب رونالد بوش الرئيس التنفيذي للشركة. وفي 13 أكتوبر أعلنت فولكسواجن أنها ستستثمر 2.4 بليون يورو (2.5 بليون دولار) لتأسيس استثمار مشترك في مجال السيارات ذاتية القيادة مع شركة “هورايزون روبوتيكس” الصينية. مثل هذا الالتزامات التي يصعب التخلي عنها ستكون أكثر انتشارا في الصناعات التي من المهم جدا للتنافسية العالمية الحفاظ على وضع قوي بها في الصين. تخشى شركات صناعة السيارات من أن افساح المجال للشركات المحلية التي حققت العديد منها تفوقا في تقنية السيارات الكهربائية وبرمجياتها سيمنحها منصة للدخول في الأسواق الكبيرة الأخرى. إذا ظلت العلاقات ودّية بين الصين والغرب سيؤتي تعزيز الاستثمار أُكُلَه. أما إذا ساءت فقد تتداعى الأشياء بسرعة بالنسبة للمقامرين الجيوسياسيين في أوساط الشركات الدولية.