تتميز الآثار المصرية بأنها الأهم على مستوى العالم، ليس هذا فقط، بل نرى اهتماماً محلياً من خلال استرجاع القطع المسروقة منذ فترةالاستعمار البريطاني من متاحف العالم لتنضم إلى الأوابد والقطع النادرة والتي في كل قطعة نجد حكاية تختزل الكثير مما كان يحدث،نفهم كيف كان يعيش الإنسان القديم، وكيف نظّم حياته ومجتمعه وما إلى هنالك، لكن ما قصة العثور على تمثال نصفي لنفرتيتي؟
في السادس من ديسمبر عام 1912، تم العثور على تمثال نصفي للملكة المصرية نفرتيتي من أروع آثار الفن القديم، بفضل هذا التمثالالنصفي الصغير، نظر الأوروبيون إلى تاريخ مصر القديمة بطريقة مختلفة تماماً. لقرون، كان يُعتقد أن الإنجاز الرئيسي للحضارة المصريةهو الأهرامات العملاقة والآثار الضخمة، وكانت قيمة الأعمال الفنية تحددها بدلاً من ذلك العمر والغموض والتصوف المعقد. لكن التمثالالنصفي لنفرتيتي قلب كل الأفكار حول فن أرض الفراعنة.
إن تاريخ اكتشاف هذه التحفة الفنية غريب جداً، والمكائد والخلافات حول التمثال النصفي للزوجة الجميلة للفرعون إخناتون، لم يتم إخفاءالتمثال النصفي، ولكن لم يتم الإعلان عنه أيضاً، فقد كان في برلين في متحف منزل جيمس سيمون، الذي استخدمت أمواله لتنظيم رحلةاستكشافية إلى العمارنة. ولكن بعد عشر سنوات، قرر سيمون المسن بالفعل التبرع بمجموعته المصرية للدولة.
تم افتتاح معرض في عام 1924، وكما تنبأ عالم الآثار الألماني لودفيج بورشاردت، كان له تأثير قنبلة، تبين أن التمثال النصفي لنفرتيتيكان مثالياً وحديثاً لدرجة أن العديد من الزوار تساورهم الشك على الفور حول أصله القديم، ومع ذلك، سرعان ما هدأت هذه المحادثات، لأنهكان من الضروري في ذلك الوقت الاعتراف بأن التمثال نصفي من صنع عبقري حديث، لم يكن التعرف عليه ممكناً.
وبحلول العشرينات من القرن العشرين، كان الفن المصري معروفاً جيداً في أوروبا – فقد تمت دراسته في الجامعات، لكن حقيقة الأمر هيأن مجموعة العمارنة، التي تمثل تمثال نصفي لنفرتيتي من روائعها، كانت مختلفة تماماً عن جميع الأعمال الأخرى التي تم إنشاؤها فيمصر قبل وبعد عصر الأسرة الثامنة عشرة، هذه الفترة القصيرة نوعا ما في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد، والتي ارتبطت في تاريخمصر عادة بالإصلاحات الدينية لزوج نفرتيتي، الفرعون أمنحتب الرابع، أو أخناتون، كما بدأ يطلق على نفسه.
يتلخص جوهر التغييرات في حقيقة أن الإله الرئيسي (ولكن ليس الإله الوحيد كما يُعتقد أحياناً) للأرض المصرية أُعلن تجسيداً للقرصالشمسي آتون، والزوجين “المختارين” فرعون إخناتون وزوجته نفرتيتي كانا حلقة وصل بين إله الشمس والناس، فقد عزز هذا موقفالفرعون وعائلته، وفي الوقت نفسه قلل بشكل كبير من تأثير الكهنوت. رغم أن الإصلاح لم يكن ناجحاً، وقد قام نجل أخناتون، توت عنخ آتون،بلفه، متخذاً الاسم الذي نعرفه به – توت عنخ آمون. ومع ذلك، دون أن يكون للإصلاح تأثير كبير على مجرى التاريخ، فقد لعب دوراً حاسماًفي تطوير الثقافة المصرية.
الحقيقة هي أن التغييرات الدينية حطمت القانون التصويري الذي تطور عبر القرون، والذي كان من المفترض أن تطيع الصور المقدسة له،وتغلغلت الدوافع الدينية بطريقة ما في جميع مجالات حياة المصريين القدماء. لم يكن لدى القانون “الأوتوني” الجديد وقت للظهور، وفتحتفجوة أمام الفنانين يمكنهم أن يبدعوا فيها بغض النظر عن الأعراف والتقاليد الراسخة. ثم تم الكشف عن الموهبة الهائلة وأعلى مستوى منمهارة الفنانين، التي كانت مخبأة في السابق من خلال التخطيط والرمزية.
العديد من اللوحات النحتية لنفرتيتي وزوجها أخناتون، وبناتهم، وخدام مشهورين وغير معروفين، وزوجة أخرى لفرعون كيا، ووالدته تيا، دقيقةبشكل مثير للدهشة وروحية وجميلة. الرسومات اليومية التي تصل إلينا مذهلة وغير عادية تماماً، قبل الفرعون زوجته بلطف، نفرتيتي تجلسبلا مبالاة في حضن زوجها، وابنة الفرعون، وتحيط بوالدها ووالدتها، إلخ. إن واقعية ودقة هذه الصور مدهشة، ففرديتها ليست صورة طقسيةللملك العظيم وعائلته، كما كان معتاداً من قبل، ولكنها محددة، ويمكن التعرف عليها بسهولة.
استمرت فترة العمارنة عقدين فقط، تم تقليص الإصلاح، وأعلنت الهرطقة، لقد حاولوا تدمير كل ما يذكر بأفعال إخناتون، فقد تم تدميرالعاصمة الجديدة أخاتون التي أسسها (بالقرب من العمارنة الحديثة) وتم التخلي عنها، كما تم تدمير ورشة النحات تحتمس. يمكن للمرء أنيتخيل كيف ضرب محارب بهراوة على تماثيل نصفية منتهية وغير مكتملة تماماً واقفة على الرف وضرب صورة إخناتون. انكسر الرف،وسقطت الأشياء التي نزلت على الأرض، وظلت التماثيل النصفية في الأسفل سليمة عملياً. على ما يبدو، انهار سقف المبنى، وبعد ذلك تذوبالطوب اللبن للجدران تدريجياً. ابتلعت الرمال الورشة المهجورة والأشياء المخبأة فيها، وبعد ثلاثة آلاف ونصف عام فقط سيتم اكتشافهابواسطة بعثة بورشاردت، حيث تبين أن الفن المذهل لعصر العمارنة كان عبارة عن وميض قصير ساطع أضاء وخرج في مصر، لكن انعكاسهشوهد في بلدان أخرى من البحر الأبيض المتوسط.
بالتالي، الجمال الحقيقي ليس له عمر، كما لاحظ العديد من زوار متحف برلين المعجبين، وأكد نقاد الفن على الطبيعة الرائعة، والابتسامةالغامضة التي تكاد تكون غير محسوسة، وتفصيل كل سمة من سمات وجه نفرتيتي. وأيضاً – النبل الذي في تقاطيعها واحترام الذات الذيلا يوصف، لكن يمكن تخيل نفرتيتي بسهولة بدون تاج في الملابس العصرية اليومية، لكنها لن تفقد عظمتها الملكية.
وسرعان ما تسبب ظهور نفرتيتي في “رد فعل متسلسل”. تردد صدى الأسلوب الفني الراقي لمؤلف الصورة النحتية في قلوب الأوروبيين فيعشرينيات القرن الماضي. بعد انقطاع اشتاق الناس إلى الجمال المثالي.
الجدير بالذكر أنه في أبريل من العام 1925، افتتح المعرض الدولي للفنون الزخرفية والصناعية الحديثة في باريس. أصبح حدثاً ثقافياً علىنطاق عالمي، حدد ولادة أسلوب جديد، والذي أصبح يعرف باسم آرت ديكو بعد الأحرف الأولى من العنوان القصير لمعرض فنون الديكور،ومن مصادر الإلهام للفنانين الذين جسدوا الاتجاه الجديد عمل أساتذة مصر في عصر العمارنة، وفي مقدمتهم تمثال نصفي لنفرتيتي.
من الصعب جداً اختزال أكثر من ثلاثمئة عام في مقال، خاصة عندما يتعلق الأمر عن الحضارة المصرية، وربطاً مع واقع المنطقة، إن كلالحضارات خرجت من مناطقنا إلى العالم، منذ ذاك الزمان والملكية منتشرة في بقاعنا وهذا يقودنا إلى نظرية التسيد ربما على مستوىالعالم، خاصة وأن البلاد في الجزء الغربي لم تكن تعرف هذه المظاهر، وكثير من الدول التي نعرفها اليوم لا وجود لها، فماذا أصابنا حتىتبدلت الأحوال.
الثابت أن الحضارة المصرية وتاريخ مصر غني يحتاج مجلدات في الممالك التي حكمت وفي العلماء والعلوم التي خرجت من أرض النيل نحوالعالم وحققت العالمية، من رجال الدين والمدارس والصحافة العربية التي دربت الجميع، والمسارح والفن بكل طقوسه وأشكاله، بالتالي، تبقىمصر أم الدنيا بكل ما فيها، من حاراتها الأصيلة وأحيائها الشعبية، وطيبة شعبها، ولي فيها الكثير من الحكايات لأسردها وأنا الذيسكنتها في السابق للدراسة، لكنها اليوم تسكن في وجداني.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.