لكل علم من العلوم، العقلية والنقلية والفلكية والطب والفيزياء والرياضيات، وغيرها، تحتاج إلى مقدمات، بما فيها العلوم العسكرية، لإنجاح وإتمام أي علم، المقدمة تضبط العلوم من خلال وضع القواعد والشروط والتفاصيل التي يستند عليها كل علم من العلوم.
من هذه المقدمة، ندرك اليوم كأشخاص لدينا الوعي والمعرفة والتطور، أن لكل علم قواعده، بما في ذلك علوم الدين، وفي ضوء الفوضى المعرفية الكبيرة التي نعيشها على مواقع التواصل الاجتماعي، نجد الصفات الكثيرة التي تسبق أفعال الشخصيات من فلاسفة وباحثين وأكاديميين ومحللين وخبراء، وهذا شأنهم كما يرغبون أن يصفوا أنفسهم، ملحدين منطقيين أو باحثين إسلاميين، أو غير ذلك الكثير، لكن هذه الصفة لأن يتم اكتسابها تحتاج حياة متكاملة للوصول لها، لا من خلال قراءة كتاب لفلان أو بحث هنا أو هناك يستطيع أي إنسان الاعتقاد أنه أصبح متمكناً فيما قرأ، وهذا الذي ترونه من كل هذا الغثاء من بعض المتفلسفين هو ببساطة وصراحة “استنساخ لتجربة المستشرقين”، ولكلامهم وللمشككين وأعداء الدين وغلاة العلمانيين ومن سار على نهجهم.
وبالتالي أغلب ما نراه اليوم هو عملية استنساخ لتجارب الآخرين والتباهي بها على مواقع التواصل الاجتماعي حتى في بعض البرامج التلفزيونية ويطرح أفكار مشككة بناءً على ما قرأ، يقابل ذلك أن علماء جهابذة ومنذ العصور الماضية ردوا على هذه الشبهات، لكن مشكلة اليوم في ظل سياسة النسخ واللصق وتجميع المعلومات من هنا وهناك، وهذه النزعة منتشرة خاصة بين أولئك الذين لديهم مشكلة طائفية أو عقدية أو مذهبية يعمل على نسخ فكرة معينة تدعم توجهه وكأنه حقق ما يريد، بعيداً عن طبيعة هذه الفكرة وهل هي محققة؟ وبالتالي هذا الأمر يظهر حقيقة الإنسان الذي يعتقد أنه حقق غايته، دون أن يعرف أن للدين علوم واسعة بينت كل شيء، ومن لم يدرس على يد علماء لا يفقه شيء على الإطلاق، هناك قواعد في اللغة العربية وعلوم التفسير والحديث ومصطلح الحديث، والجرح والتعديل وعلم الرجال، بل مجرد الانتماء للمذهب الفلاني أو للعقيدة الفلانية أو للجماعة الفلانية، يعتقد الشخص أن مسلكه هو الصائب وغيره لا.
ويخرج البعض ويقول إن الدين وتشربه سهل لا يحتاج إلى عالم دين لفهمه، هذا صحيح، وأنا شخصياً ضد الكهنوت، لكن عندما تريد التخصص فيه، تحتاج إلى عالم وتحتاج إلى قواعد الدين في حال أردت التعمق ونشر أفكارك، ليس فقط على صعيد الدين بل على صعيد أي علم من العلوم الأخرى، إن أردت التعمق في اللغة تحتاج إلى خبراء لغة ومتخصصين في النحو والصرف والبلاغة، كذلك في الأدب والعلوم الأخرى، القرآن الكريم على سبيل المثال، إن أردت التخصص بعلوم القرآن له قواعد وتفسير وناسخ ومنسوخ، والمتشابه والمحكم وغير ذلك الكثير، عليك أن تتعلمه، لو كان كل شخص خبير بما يقرأ لما كان هناك كليات وجامعات متخصصة في كل العلوم.
ما دفعني لقول ذلك، أن عالم فاضل من المبجلين عندي، وله وزنه في العالم الإسلامي والعربي، وكان النقاش بسبب رسالة أرسلت لي، من كتاب لأحد العلماء الأندلسيين الكبار، وهو كتاب “التسهيل لعلوم التنزيل”، هذا الكتاب من أهم الكتب الإسلامية للإمام الكبير محمد بن أحمد بن عبدالله بن يحيى بن يوسف بن عبد الرحمن بن جزي الكلبي، الغرناطي الأندلسي، هذا المؤلف مفسر كبير وله دور مؤثر جداً في تاريخ المفسرين وعلمائه، وكل إنسان يهتم بعلوم التفسير لا بد أن يرجع إلى هذا الكتاب المهم جداً كما أسلفت، إذ أن كل باحث ومتخصص في علوم القرآن الكريم يحتاج إلى هذا الكتاب، وبالعودة إلى العالم الجليل الذي أرسل الرسالة أنه جاء بأثر، يقول هذا الأثر: (قال حبر الأمة وترجمان القرآن السيد عبدالله بن عباس رضي الله عنهما، قال: ما عندي من تفسير فهو عن علي بن أبي طالب)، وهنا لا بد من ذكر نقطة مهمة أن الإمام علي عليه السلام له مقامه ولا أحد ينكر هذا المقام بعلمه ومكانته وبقربه من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفصاحته وبلاغته وخبرته بالقرآن الكريم، لكن بهذا الأثر يجب أن ننتبه من أن تأخذنا العاطفة بأن هذا القول للإمام علي وأسلم فيه، أو أنه لعبدالله بن عباس وأقول إنه صحيح، هنا يكمن دور التخصص ودور علم الجرح والتعديل ودور علم مصطلح الحديث، ودور علماء الأثر، وبالعودة إلى هذا الأثر، هذا القول مروي بلا إسناد وهذه أول مشكلة كبرى، وعلى ما يبدو أن هذا الأثر ناقص وغير كامل، وبالعودة إلى عبدالله بن عباس فهو مدرسة في التفسير وهي مدرسة مستقلة، وكان كثير النظر بكتب أهل الكتاب، وكثير ما كان ينقل من “الإسرائيليات” وكثير ما ينقل عن النبي، وكان لديه إذا جاز التعبير مرويات فيها تسهيلات كثيرة لجهة الأخذ منها، والإمام علي له منهجه الخاص بتفسيره للقرآن وبنقله للرواية، وكان الإمام علي من الأشخاص الحريصة لدرجة كبيرة على مسألة النقل عن أهل الكتاب.
وهنا لا بد من ذكر المدارس الهامة في تلك الفترة وأبرزها، مدرسة عبد اللّه بن عباس، يوم ارتحل إليها عام الأربعين منالهجرة، حيث غادر البصرة وقدم الحجاز، بعد استشهادالإمام أمير المؤمنين عليه السلام، وهي مدرسة مكة، أما مدرسة المدينة، قامت على الصحابة الموجودين بها، ولا سيماابى بن كعب الأنصاري، ثم مدرسة الكوفة الذي أقامدعائمها الصحابي الكبير عبد اللّه بن مسعود، في عهد عمر بن الخطاب، وكانت من أهم المدارس بعد مدرسة مكة، توسعاًوشمولاً لمعاني القرآن والفقه والحديث، ثم مدرسة البصرةالتي أقامها أبو موسى الأشعري.
وهنا لا بد من التوقف عند العلامة والمفسر الكبير الإماممحمد بن جزي الكلبي الغرناطي الأندلسي وكتاب “التسهيل لعلوم التفسير”، كتبت سابقاً عن عددٍ من المفسرين والذين يُعتبرون من كبار المؤثرين في مدرسة التفسير على امتدادها في العالم الإسلامي وتاريخ التفسير، إن كتاب “التسهيل لعلوم التفسير” كما أشرت من الكتب المتميزة، الإمام الغرناطي من المفسرين الذين كان لهم دور مؤثر في تاريخ التفسير، خاصة هذا الكتاب المتميز من حسن السبك والصياغة، وكما أشرت يجب ان نعرف الحقبة التي عاش بها المؤلف بين القرنين السابع والثامن الهجري، لفهم طبيعة التفسير آنذاك.
ولد الإمام محمد بن جزي الكلبي الغرناطي الأندلسي في غرناطة عام 693 هـ – 741 هـ، وهو من عائلة معروفة بالعلم واشتهر منها عدد من العلماء، والقضاة وأمراء النواحي في بلاد الأندلس، وألف عدداً من المؤلفات في الأصول والفقه والتفسير، والعقائد والتصوف، ويتميز العصر الذي عاش فيه من الناحية السياسية عصراً هادئاً نسبياً، ومن الناحية العلمية كان عصراً مليئاً بالعلماء، ويعد تفسير العالم الغرناطي من التفاسير النادرة التي وصلت إلينا من تلك الحقبة، لكن هنا لا بد من ذكر ملحوظة تتعلق بالعلامة محمد بن جزي المتهم من قبل البعض بالتدليس والكذب، وهذا خطأ شائع، لأن هناك شخصاً يحمل الكنية نفسها وينتمي لذات القبيلة الحميرية (الكلبي) فالذي تطاله تلك الأقاويل هو محمد بن السائب الكلبي ومن سكان الكوفة، وهناك بون شاسع بين الشخصيتين.
بالعودة إلى كتاب التسهيل لعلوم التفسير، ظهر أسلوب الإمام المتميز فيه بالتفسير وأصول الفقه واللغة، وهو من التفاسير المركزة، وتلقى الإمام الكلبي العلم على يد مشايخ غرناطة في زمانه، ويعد هذا الكتاب المهم من كتب التفسير التي لم تحظّ بالعناية من العلماء المتأخرين، يقول ابن جزي الكلبي في مقدمة كتابه ذاكراً الدافع الذي دفعه لكتابته: (أما بعد، فإن علم القرآن العظيم هو أرفع العلوم قدراً، وأجلها خطراً وأعظمها أجراً، وأشرفها ذكراً، وإن الله أنعم عليّ بأن شغلني بخدمة القرآن وتعلمه وتعليمه، وشغفني بتفهم معانيه وتحصيل علومه، فاطلعت على ما صنف العلماء رضي الله عنهم في تفسير القرآن من التصانيف المختلفة الأوصاف المتباينة الأصناف، فمنهم من آثر الاختصار ومنهم من طوّل حتى كثّر الأسفار ومنهم من تكلم في بعض فنون العلم دون بعض، ومنهم من اعتمد على نقل بعض أقوال الناس ومنهم من عوّل على النظر والتحقيق والتدقيق .. إلخ).
ومن مقدمة الإمام الغرناطي ذكر أيضاً فيها أن قصد أربعة مقاصد، الكتاب كتاب مختصر، ودقيق وعباراته مركزة وهو من أثمن كتب التفسير، المقصد الأول، جمع الكثير من العلم في كتاب صغير الحجم، حيث لخص مصادره في اوجز العبارات وأودعها في كتابه هذا، والمقصد الثاني، ذكر أمور عجيبة وغريبة من تفاصيله الخاصة وما أخذه عن شيوخه، وأما المقصد الثالث فكان إيضاح المشكلات التي قد يتعرض لها من يقرأ القرآن الكريم، إما بحل العقد المقفلة أو بحسن العبارة ورفع الاحتمالات، المقصد الرابع، هي تحقيق أقوال المفسرين الصحيح منها والسقيم وبيان الراجح من المرجوح، من خلال الحديث عن نزول القرآن الكريم والسور المكية والمدنية، كذلك شروحات المعاني والعلوم التي تضمنها القرآن الكريم وغير ذلك من المواضيع ذات الصلة، من تفسير وقراءات ونحو وغير ذلك، وبين أسباب الخلاف التي تقع بين المفسرين وهو الأمر الذي استمر حتى أيامنا هذه. وبالتالي، لقد ذكر الإمام في كتابه قواعد مهمة لمن يريد قراءة القرآن الكريم، وأيضاً إعجازه، وفضله.
ومن الطبيعي أن يروي الصحابة بعضهم عن بعض، وهذا عمار بن ياسر كان يروي عن الإمام علي بن أبي طالب، ويروي عن عمر بن الخطاب، وزيد بن ثابت يروي عن ابن عباس في الرخص، وعبدالله بن عباس ينقل عن الإمام علي بن أبي طالب وعن أبي بكر، وينقل عن كبار الصحابة وحتى عن الحلفاء الراشدين، الآن قضية الرواية المذكورة في الكتب ومنسوبة للأئمة أو الصحابة أو التابعين، وهنا يكمن العلم في قضية النقل لأنها أمانة وأي أثر يحتاج إلى إسناد كما أشرت أعلاه، وهذا الأمر يحتاج للقراءة والمتابعة والتيقن، على سبيل المثال مدرسة ابن عباس الذي هو حجة عندالمكيين، وابن مسعود والإمام علي بن أبي طالب حجة عندالكوفيين بسبب المكانة والاحتكاك، وابن عمر حجة عندالمدنيين، هذه النقاط لا بد من مراعاتها وأن نعرف آراء العلماء والفقهاء فيها، خصوصاً المحدثين، وذلك لتجنب العبث في قضية التراث وقراءتنا لموروثنا الإسلامي وبالتالي نحتاج لهذا الضابط الذي نجده في كتب علم الجرح والتعديل ومصطلح الحديث ويجب فهم المصطلحات العلمية عندهم.
وعلى سبيل المثال، العلامة الأندلسي، محمد بن أحمد الغرناطي الأندلسي من علماء القرن السابع والثامن، هنا علينا قراءة وفهم تلك الحقبة والفترة التي كتبوا فيها وظروفها السياسية والاجتماعية، ومعرفة منهج المؤلف في كتابته، وقراءته ونقل عن مَن، ومن هم أساتذته وشيوخه وتلاميذه، وإلى أي مدرسة ينتمي، كل هذه الأمور لا بد منها، لا بد من معرفة المنهج العلمي لتكون على دراية كاملة فيه، أما من ينقل اليوم عن أي كتاب دون هذه الشروط فهذا ليس حجة، بل المنهج العلمي والدليل العلمي هما الحجة، وبالتالي أياً كانت ميولك تحتاج إلى قراءة المقدمات وفهم التفاصيل ومن ثم مشاركتها مع العامة، لأن أي متخصص سيكشف زيفك من حقيقتك، وسيعريك بأنك مفتقر لعمق الموضوع المطروح.
اليوم هناك كثير من الناس الذين يقرأون قراءة سطحية من الكتب وغيرها، تجد فيها سهلة، وأي إنسان لديه ميول مذهبية أو دينية أو فقهية وغير ذلك، يستطيع أن يكتب كتاب على حسب ميوله وعاطفته فيجير كل العبارات والكلمات بحسب أهوائه، والآن من النادر جداً أن نجد إنسان موضوعي في طرحه، خصوصاً بالفكر الإسلامي، لذلك إن العاصم في الفكر الإسلامي هو المنهج العلمي، فأي أثر فيه نظر، لكن لو كان فيه إسناد لتغير الوضع، وبالتالي علينا دائماً أن نتحرى الصدق في الكلام ونتحرى المعلومة، الكتب ليست حجة، وأنا دائماً ما أقول ذلك، لأنه بهذه الطريقة منفلتة بكل ما للكلمة من معنى تدخل عليك الخرافة والدجل والكذب على الله تبارك وتعالى وعلى رسوله الكريم، وعلى الأنبياء والرسل، وعلى أئمة أهل البيت والصحابة، والتابعين، وعلى الجميع.
لذلك ما أجمل العلم، وما أجمل التحصن في المنهج العلمي، وكل من يشعر أن لا قدرة له على ذلك، يستطيع اللجوء إلى أهل التخصص من أهل الذكر، تثق بعلمه وقدرته وتمكنه من علم الدراية والرواية وعلم مصطلح الحديث الذي يوجد فيه سبعة فنون لكل منها شخص متخصص بها، هو القادر ان يحل لك هذه المعضلة، ولكن إحذر وإياك أن تفتي وتعطي رأي، وتنسخ تجربة من رأسك دون العودة إلى ما تم ذكره آنفاً.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.