فرضت القمم العربية الثلاث التى عقدت مع الصين يومى الخميس والجمعة (8-9 ديسمبر الجارى): القمة السعودية – الصينية ، والقمةالخليجية – الصينية، والقمة العربية – الصينية فرضيتين أساسيتين يجب التعامل معهما بجدية. الفرضية الأولى تقول أن العرب فىمقدورهم أن يكونوا كتلة موحدة، وأن في مقدورهم إقناع دول العالم أن تتعامل معهم على هذا النحو باعتبارهم كياناً عربياً، وهنا يبرز أمر”الهوية العربية” التى جرى تجاهلها أو نسيانها على مدى عقود فى مقدمة كل حوار مع الذات أولاً ومع الغير ثانياً. وفى ظل هذه الفرضيةالتى تكشفت بجلاء فى الحوار مع الصين ، يجب أن يتعامل العرب (الدول) مع بقية دول العالم باعتبارهم “وطناً عربياً” أو على الأقل “عالماًعربياً” وليس مجرد “منطقة” منزوعة أو مشوهة الهوية كما جرى على ذلك الإعلام العالمى وشاركه بكل أسف الإعلام العربى والنخب العربية. وجاءت تفاعلات مونديال كأس العالم فى قطر وتفاعل الجماهير العربية دعماً لاستضافة قطر للمونديال فى مواجهة التشويه الغربى، ثمالدعم الجماهيرى العربى غير المسبوق للفرق العربية المشاركة فى المونديال، وبعدها تلك الحالة غير المسبوقة من التوحد الوجدانى العربىفى دعم ومساندة الفريق المغربى والمفاخرة به وبالعروبة، وفى رفع أعلام فلسطين فى الملاعب وفى المدن والشوارع العربية لتؤكد أن التوحدهو الهوية العربية والطموح إلى تأسيس كيان عربى موحد رغبة وطموح شعبى قبل أن يكون اختياراً للدول وللحكام العرب.
أما الفرضية الثانية فهى أن الصين وما ورد على لسان الرئيس الصينى شى جينج بينج من تعهدات وطموحات بشأن التعاون الصينى فىكافة المجالات على أساس من الندية والاحترام المتبادل والثقة تؤكد أن الصين يمكن أن تكون خياراً استراتيجياً للعرب، بل أن تكون شريكاًاستراتيجياً، وأن الأجواء الجديدة لما يمكن تسميته مجازاً بأجواء “الحرب الباردة العالمية الجديدة” تعطى للعرب فرصة تاريخية للانعتاق منقيود شراكة أمريكية- غربية مفروضة مفعمة بالتسلط والعنصرية والاستعلاء، وقيود التبعية التى لا فكاك منها.
فالقمم الصينية الثلاث مع العرب التى استضافتها المملكة العربية السعودية فتحت آمالاً واسعة لمستقبل عربى أكثر إشراقاً وازدهاراً عبر عنهولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان فى ختام القمة الثالثة (العربية – الصينية) بقوله أن العرب “سيسابقون على النهضة والتقدم”. وقال: “نؤكد للعالم أجمع أن (العرب) سوف يسابقون على التقدم والنهضة مرة أخرى. وسوف نثبت ذلك كل يوم”.
هكذا فرضت أجواء القمة نفسها على كلمة ولى العهد السعودى فتحدث عن “العرب” هكذا، ولم يتحدث عن “دول عربية”. هذه النقلة الكبيرةفى الإدراك للذات وفى الطموح بالمستقبل دعمتها ما ورد على لسان الرئيس الصينى “شى جينج بينج” الذى اعتبر أن “قمة الرياضالعربية- الصينية للتعاون والتنمية” هى “حدث مفصلى فى تاريخ العلاقة بين الجانبين” وأنها “ستقود العلاقات والتعاون بين الصين والدولالعربية نحو مستقبل أجمل”، وأكد أهمية التمسك بالاستقلالية وصيانة المصالح المشتركة، مشدداً على دعم جهود الدول العربية “لاستكشافطرق التنمية التى تتماشى مع ظروفها الوطنية، والتحكم فى مستقبلها ومصيرها”، ما يعنى أن هذا النموذج الجديد من الشراكة العربية – الصينية لا يقوم على فرض الوصاية والهيمنة، بل على احترام الإرادات العربية والخصوصيات . وهنا جاء حديث الرئيس الصينى عنالحرص على “تعميق الثقة الاستراتيجية المتبادلة، وتبادل الدعم الثابت فى المساعى العربية للحفاظ على السيادة وسلامة الأراضى والكرامةالوطنية.
وفى كلمته أمام القمة الخليجية – الصينية كان الرئيس الصينى حريصاً على الحديث عن التقارب الحضارى التاريخى- الصينى – العربى،وعن تدعيم جوهر “الحضارة الشرقية”، وليس ما يطرحه الغرب من “صراع بين الحضارات” و”فوبيا العداء للإسلام”، كما كان حريصاً علىتحديد أولويات مجالات التعاون الصينى – الخليجى فى السنوات الخمس المقبلة لتشمل: بناء معادلة جديدة لتعاون شامل الأبعاد فى مجالالطاقة، والدفع بتحقيق تقدم جديد للتعاون فى مجالى المال والاستثمار، وتوسيع تعاون الابتكار التكنولوجى إلى مجالات جديدة، وتحقيقابتكارات جديدة للتعاون فى مجال الفضاء.
وجاء “إعلان الرياض” الذى صدر فى ختام القمة العربية- الصينية ليؤكد أولاً على حرص الجانبين على تعزيز الشراكة الاستراتيجية القائمةعلى التعاون الشامل والتنمية المشتركة لمستقبل أفضل، والالتزام بمبادئ الاحترام المتبادل لسيادة ووحدة الأراضى وسلامتها الإقليمية وليؤكدثانياً على أن القضية الفلسطينية تظل قضية مركزية فى الشرق الأوسط، وهى التى تتطلب إيجاد حل عادل ودائم لها على أساس “حلالدولتين” ، من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967 وعاصمتهاالقدس الشرقية.
أمام هاتين الفرضيتين سيكون أمام العرب (الدول والشعوب) مواجهة مصير العلاقة مع الغرب وبالتحديد مع الولايات المتحدة، وما يربط دولاًعربية بـ “شراكات استراتيجية” مع الولايات المتحدة. هل سيكون خيار العرب هو الجمع بين الشراكتين الصينية والأمريكية؟ وإذا كان هذاهو الخيار فى ظل روابط وقيود أمنية تربط دولاً عربية بالولايات المتحدة هل ستقبل الولايات المتحدة بهذا الخيار؟ ، وكيف سيكون فى مقدورالعرب التنسيق بين الشراكتين؟
الأسئلة مهمة، إجاباتها يمكن الاستدلال عليها من الأجواء المحمومة والساخنة للقمة الأمريكية – الأفريقية الثانية (بعد قمة 2014 فى عهدالرئيس باراك أوباما)، التى عقدت بعد أيام معدودات من اختتام القمم العربية – الصينية فى الرياض، وبالتحديد فى الفترة من (13- 15 ديسمبر الجارى). فهذه القمة الأمريكية – الأفريقية جاءت لمواجهة تمدد النفوذ الصينى والروسى فى القارة الأفريقية، وبالتحديدلاستعادة الثقة الأمريكية مع أفريقيا واحتواء النفوذ الصينى ، وقد تجلى ذلك فى قرار وزير الخارجية الأمريكى أنتونى بلينكن إنشاء ماأسموه فى واشنطن بـ “تشاينا هاوس” (البيت الصينى) لتنسيق المنافسة مع الصين. وقال بيان للخارجية الأمريكية أن “(تشاينا هاوس)سيكفل قدرة الحكومة الأمريكية على إدارة منافستنا بشكل مسئول مع جمهورية الصين الشعبية، وتعزيز رؤيتنا لنظام دولى مفتوح وشامل”.
حجم الإغراءات الأمريكية لأفريقيا فى هذه القمة كان غير مسبوق ، لكنه يبقى دون حقائق التعاون الصينى مع أفريقيا، وجاء يفرض”مواجهة التأثير الصينى الخبيث على القارة الأفريقية”، وفق تعبير جون كيرى الناطق باسم مجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض، أجواءتلك القمة جعلت الرئيس الرواندى بول كاجامى يعرب عن استيائه من فكرة أن بلاده وآخرين فى القارة “يعلقون بين الولايات المتحدةوالصين”. وقال كاجامى خلال حديث على هامش تلك القمة استضافته مؤسسة “سيمانور” الإخبارية ” لا أعتقد أننا فى حاجة إلى أننتعرض للتنمر فى الاختيار بين الولايات المتحدة والصين”. كما عبر الرئيس السنغالى ماكى سال ، الذى تتولى بلاده رئاسة الدورة الحاليةللاتحاد الأفريقى عن الإرادة الأفريقية إزاء الأجواء الأمريكية المحمومة لفرض الاختيار بين الصين والولايات المتحدة على الأفارقة بقوله :”نريد شراكة من دون ان يقول لنا أحد ما نفعل أو ما لا نفعل”.
إجابات أفريقية تفسح مجال الاجتهاد أمام العرب لحسم خياراتهم بين الشراكتين .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الاهرام : 20 / 12 / 2022 م