تشير إحصائيات وزارة الصحة في سلطنة عُمان والتقارير التي ترد في هذا الشأن إلى أنه بنهاية عام 2021م بلغ العدد الكلِّي للإصابات بمرض نقص المناعة المكتسبة “الإيدز” في السلطنة 3580 مصابا، منهم 1996 لا يزالون على قيد الحياة ويتلقون العلاج في المستشفيات والمراكز المتخصصة، حيث توفي منهم 1584، وأن هناك ارتفاعا ملحوظا في نسبة الإصابة بالمرض في سلطنة عُمان، حيث يتم رصد ما لا يقلُّ عن 160 حالة جديدة بشكلٍ سنوي، كما قد تزيد الأرقام بسبب وجود المرض لدى بعض المصابين الذين لم يتم الكشف عنهم أو لم يتم تشخيصهم، وأن ما نسبته 95% من وفيات المصابين بمرض نقص المناعة المكتسبة “ الإيدز” ناتج إما بسبب التشخيص المتأخر للمرض، أو عدم تشخيصهم بالمرض إلا بعد وفاتهم، ورفض البعض منهم تعريضه للعلاج بسبب التراكمات السلبية والنفسية للشخص المصاب حول مرضه أو ردة فعل المجتمع حوله إذا ما علم بذلك، والتي حالت دون تلقيهم للعلاج، الأمر الذي أدى إلى استفحال المرض فيهم ووفاتهم.
وعلى الرغم من الجهود التوعوية والتثقيفية والمهنية المبذولة من قبل وزارة الصحة، والمؤسسات الصحية الأخرى بسلطنة عُمان، ووجود البرنامج الوطني المعني بمرض الإيدز والذي يستهدف تقصي ومتابعة ورصد انتشار مرض الإيدز بالسلطنة وتقديم العلاج للمصابين في إطار من السرية والمهنية للحدِّ من انتشار المرض في أوساط الشباب والفتيات، بالإضافة إلى دوره في التشخيص المبكر للحالات وتوفير العلاجات المناسبة لها، إلا أن مؤشرات زيادة انتشار مرض نقص المناعة المكتسبة “الإيدز” في مجتمع سلطنة عُمان، تطرح تساؤلات ونقاشات عميقة حول الأسباب التي تقف وراء الارتفاع في عدد المصابين بمرض نقص المناعة المكتسبة “الإيدز”، وبالتالي ما إذا كان انشغال العالم وسلطنة عُمان بجائحة كورونا “كوفيد19” والأمراض غير المعدية أو المزمنة مثل أمراض القلب والسرطانات بأنواعها المختلفة وأمراض الكلى والسكري والضغط، وأمراض السمنة، أدَّى إلى أولوية توجيه سياسات الدولة نحو التوعية والتثقيف بهذه الأمراض وطرق الوقاية منها والتأكيد على أهمية الممارسة الصحية السليمة الغذائية والرياضة البدنية في ظل ما تظهره منظمة الصحة العالمية بأن الأمراض غير المعدية المزمنة مسؤولة عن حوالي 72% من إجمالي الوفيات في سلطنة عُمان؛ ثم هل تعزى هذه الأسباب إلى ما هو شائع بين أفراد المجتمع من أن انتشار مرض الإيدز يتم عن طريق الاتصال الجنسي المباشر، وما هي الحالة الخاصة بسلطنة عُمان في تشخيص مرض نقص المناعة المكتسبة” الإيدز”، إذا ما علمنا بأن هناك أسبابا أخرى لانتشاره عن طريق نقل الدم الملوث أو الأعضاء الملوثة في ظل ثبات وكفاءة الإجراءات الوقائية التي تتعامل بها السلطنة عُمان في هذا الشأن؟
إضافة إلى ذلك، هل سبب الانتشار هو نقل المواطن لهذا المرض في رحلات السفر والسياحة الخارجية في ظل ممارسة أحدهم ذكرا كان أم أنثى هذا السلوك الشائن مما يتسبب في تلقيه لهذا المرض؟ وإلى أي مدى أسهم وجود ممارسات بعض الفئات التي دخلت السلطنة بغرض السياحية في ظل الخطوات التي اتخذتها الحكومة بفتح المجال لما يقارب من مواطني 103 دول حول العالم من دون الحاجة إلى تأشيرة دخول في خطوة لدعم السياحة وفق الضوابط والشروط المحددة من جهات الاختصاص؟ ثم أين موقع التعليم والإعلام والضبط الاجتماعي والأسري والخطاب الديني ومؤسسات الوعظ والإرشاد من إعادة إحياء السلوك الشخصي والاجتماعي المعزز بالرقابة الذاتية والوازع الديني والقيمي والأخلاقي الموجه نحو مرض نقص المناعة المكتسبة الإيدز؟ وذلك عبر رفع سقف التوعية والمبادرات المجتمعية، وإكساب المجتمع ثقافة الوقاية منه؛ ثم هل للدعاية والإعلانات التجارية حول السلع والبضائع والمنتجات الطبية والصحية عبر المنصَّات الاجتماعية من أشخاص ليسوا من ذوي الاختصاص، علاقة باتساع انتشار المرض بين أوساط الشباب في ظل الأساليب التي تمارس في هذه المنصَّات، والمحتوى الذي تصل به إلى المجتمع، وكون الشباب من الجنسين هم أكثر الفئات استخداما لهذه المنصَّات ومتابعة للمروجين لهذه الإعلانات؟ كل ذلك وغيره يطرح اليوم على الجهات الصحية وغيرها مسؤولية البحث في هذه الأسباب والدراسة المعمقة لها، وتقييم مدى كفاءة الإجراءات الاحترازية، ومصداقية الكشوفات الطبية الخارجية للوافدين، ومدى الحاجة إلى المزيد من الإجراءات والمراجعات لها لضمان خلو الوافدين كمقيمين أو زوار من هذا المرض.
وعليه، فإن الإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها يطرح اليوم جملة من الأجندة والإجراءات الثابتة التي ينبغي أن تشكل مسارا متكاملا في العمل الوطني نحو الوقاية من مرض الإيدز، بما يعنيه ذلك من أهمية العودة إلى الوراء قليلا للتأمل في الإجراءات والخطوات وأفضل الممارسات التي تم اتخاذها في العقود الماضية والتي كان لها أثرها الإيجابي في الحدِّ من انتشار المرض في مجتمع سلطنة عُمان، وتوجيه مساراتها في ظل معطيات المرحلة، وتوظيف التقنية والاستفادة من المنصَّات الاجتماعية في ترسيخ الوعي الاجتماعي بمخاطر مرض الإيدز؛ وإيجاد التشريعات والضوابط للحدِّ من نشر كل ما يؤدي إلى تهييج هذا الشعور السلبي لدى الفرد بالاتصال الجنسي غير المشروع في ظل اتساع المثيرات والملهيات والعوامل المهيجة لهذه الممارسات، بالإضافة إلى إعادة إنتاج وصناعة المحتوى التوعوي والتثقيفي لمرض الإيدز، فمع القناعة بأن الجهات المعنية ماضية في عملها ومتابعتها وتشخيصها للحالة المرضية، إلا أننا ندرك أن جرعات الزخم الإعلامي والاجتماعي والبرامجي والتأهيلي والوقائي والعلاجي المقدم في مواجهة مرض الإيدز أقل بكثير عما كانت عليه في السابق، خصوصا في ظل اتساع انتشار الأمراض المزمنة التي أشرنا سلفا إلى بعضها، بما يؤسس لمرحلة متجددة في نهج الوقاية وترسيخ الوعي الصحي الاجتماعي باعتباره الحلقة الأقوى في معادلة التصحيح، والطريق السليم في مواجهة المرض، وخلق مناعة ذاتية ورقابة شخصية ودينية لدى الفرد، وتعظيم حضور فقه الضمير والحس المسؤولية وحماية النفس من مرض الإيدز ومآسيه ونتائج كارثية على الحياة الشخصية والأسرية والعائلية واستنزاف الموارد الوطنية. وبالتالي يطرح ارتفاع مؤشرات مرض الإيدز في سلطنة عُمان مرحلة جديدة من العمل الوطني المنظم والمؤطر، مرحلة تمتلك دعامات أكبر للتشخيص والتقنين والضبطية والمعالجة والتوعية والتثقيف، لتكون كمثيلاتها من القضايا الأخرى التي باتت تجد اهتماما وطنيا مؤسسيا ومجتمعيا منقطع النظير، فإن خطر مرض الإيدز ليس بأقل من محاربة المخدرات والوقاية منها، وليس بأهون من مواجهة حالات الاحتيال الإلكتروني، كما أن خطره يزيد على الابتزاز الإلكتروني وحوادث السير، فإذا كنا نشهد هذا الاهتمام الرسمي والمجتمعي والشراكات الواسعة، والمبالغ التي تضخ في سبيل التوعية بهذه الأمراض أو الظواهر فإن مرض الإيدز القاتل اليوم، في ظل عودته إلى الواجهة، بحاجة إلى أن يجد هذا المسار من الحضور في برامج التوعية والتثقيف وإجراءات السفر والسياحة وضوابط السياحة الوافدة والوقوف في وجه السفور والانحلال الخلقي وفرض ضوابط الاحتشام في الأماكن العامة، وإعادة تقييم الممارسات السياحية والترفيهية وغيرها، بالإضافة إلى مراجعة جادة لمنظومة العادات والتقاليد والممارسات غير السليمة التي سببها الاختلاط والسفور وضعف الاحتشام، والملابس الفاضحة والسلوكيات المهيجة للغريزة الجنسية، واستخدام المنصَّات الاجتماعية في نشر الخصوصيات وما يتبعها من حالات الابتزاز والاغتصاب والعياذ بالله. أخيرا، إذا كانت سلطنة عُمان قد قطعت شوطًا كبيرًا في القضاء على انتقال مرض الإيدز والزهري من الأُم إلى الطفل، وتسلمت من منظمة الصحة العالمية شهادة الاعتراف الدولية للقضاء على انتقــــــال فيروس نقل المناعة البشري والزهــــري من الأُم إلى الطفل، لتكون بذلك أول دولة في الشرق الأوسط تحصل على هذه الشهادة العالمية في إطار أهداف منظمة الصحة العالمية بحلول عام 2030، فإن الآمال تحدو بنا إلى إعادة إنتاج السياسات والبرامج الوطنية الموجهة نحو مرض نقص المناعة المكتسبة الإيدز، عبر حراك مجتمعي واعٍ، يتسم بتعددية القطاعات، وتكامل الأدوات، وتناغم الحلول وتفاعل المسارات، وترابط الأطر، ونفاذ التشريع، يجسد روح التغيير ومسارات التحوُّل، ويبني في النفس حس المسؤولية ورقابة الضمير ونمو الوازع الديني، بحيث يتحول القلق الناتج عن انتشار مرض الإيدز إلى ثقافة مجتمع وسلوك مواطن ممارس يضع حدًّا لكل الممارسات الجنسية خارج إطار الحياة الزوجية، ويؤسس لمرحلة جديدة في إعادة إنتاج الأمن الوقائي الصحي في حياة المواطن اليومية في البُعد عن كل الأسباب والمعطيات أو مجرد التفكير في المبررات التي قد تهوي به في وحل الرذيلة ودناءة السقوط.
د.رجب بن علي العويسي