رأى المسلمون أن أوروبا كانت أكثر تقدماً علمياً وتقنياً من العالم الإسلامي، الذي يعزى تخلفه الأوروبيون إلى تمسك المسلمين بالمفاهيم القديمة القائمة على الدين وغياب التفكير القومي، حيث قدم هذا الوضع بديلاً – إما للحفاظ على طريقة الحياة الإسلامية، أو لقبول وتكييف الإنجازات العلمية والتكنولوجية للغرب.
أدى التوسع الأوروبي إلى تغييرات عميقة في المجتمعات التقليدية في المجالات الاقتصادية والسياسية، مما أدى إلى تدمير المبادئ المعتادة لتنظيم وإضفاء الشرعية على السلطة، ونتيجة للاستعمار الأوروبي، تم تقويض الهياكل الاجتماعية للمجتمعات الإسلامية، وتم تضمينهم أنفسهم في عملية التنمية الاقتصادية العالمية.
كما كان للاستعمار الغربي تأثير كبير على تطور الفكر الاجتماعي والسياسي الإسلامي، لكن كان الرد على ذلك ظهور إيديولوجية “الحداثةالإسلامية”، أما في القرن التاسع عشر، وخاصة في النصف الثاني منه، كرد فعل على التوسع الأوروبي، ظهرت أيديولوجية جديدة فيالبلدان العربية، تقوم على أفكار القومية والإسلاموية، لقد أيقظ توسع الغرب السياسي والثقافي والأيديولوجي لدى العرب الشعور بالوحدةالوطنية، نظراً لأن الإسلام يحدد جميع مجالات الحياة الاجتماعية للمجتمعات الإسلامية، فقد اتخذ رد الفعل على غزو أوروبا الغربية شكلاًدينياً حاداً – تم تفسير الهيمنة الأجنبية على أنها نتيجة لتراجع دور الدين في الحياة العامة.
ربط منظرو إحياء الإسلام أفكار الوحدة الإسلامية بالمهام الملحة للتنمية السياسية، واعتماداً على الإسلام كقاعدة عقائدية، اعتبروا أنه منالضروري إصلاحه حتى تتمكن الدول الإسلامية، متحدة على هذا الأساس، كما تم تسهيل ظهور الأفكار الإصلاحية مع الفتوحات الاستعمارية في نهاية القرن الثامن عشر.
استجابت حركة الإصلاح للوضع الجديد، على أساس مفهومين رئيسيين هما “التقدم” و”التجديد”، داعية من جهة إلى استعارة كل ما هومفيد من الغرب، ومن جهة أخرى، أن نبقى مخلصين لأفكار الإسلام الأصلي.
لكن الأكثر تقليدية سياسياً وأيديولوجياً، والتي تهدف بلا هوادة إلى محاربة النفوذ الغربي، هي مفاهيم وأيديولوجية أحد ممثلي النهضةالإسلامية في القرن الثامن عشر، الإمام محمد بن عبد الوهاب (1703 – 1787)، حيث لا تزال تعاليمه هي الأساس الأيديولوجي الرئيسي للاتجاه الأكثر راديكالية في الإسلام السياسي، وفي الأربعينيات من القرن الثامن عشر، جاء أولاً بفكرة تطهير العالم الإسلامي وتجديده،وإعادته إلى نقاء تعاليم الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وتدمير كل ما تم إدخاله من الخارج، حيث بدأ يركز بمذهبه في التوحيد.
سعى المفكر والمعلم والكاتب المصري الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801-1873) إلى تكييف العناصر الفردية للثقافة الغربية مع المؤسساتوالمعتقدات الإسلامية التقليدية، فقد كان أول من أعطى معنى جديداً للكلمة العربية “وطن”، ففسرها على أنها إنشاء دولة قومية إقليميةتسكنها مجموعة اجتماعية – عرقية معينة، في كتاباته، سعى الطهطاوي أيضاً إلى تعريف مواطنيه بالفكر الاجتماعي الأوروبي الغربيالتقدمي، داعياً إلى إدخال شكل برلماني للحكومة.
في القرن التاسع عشر كما أشار حري الدين التونسي إلى تفوق الغرب على العالم الإسلامي وحاول إيجاد إجابة لسؤال كيفية تغيير هذهالدولة، للقيام بذلك، عرض قرضاً لتبني المؤسسات الغربية ونظام أوروبي من النظام الديمقراطي الليبرالي مع سيادة القانون وحكومةمسؤولة، وأكد بشكل خاص أن من مزايا أوروبا أن “الحرية هي مصدر العلم والحضارة في الدول الأوروبية”.
ثم أصبح جمال الدين الأفغاني (1838-1897)، الذي لا يزال أحد أكثر إيديولوجيات الإصلاح الإسلامي احتراماً، مصلحاً وإيديولوجياًعربياً بارزاً، حيث تستخدم الحركات الإسلامية الحديثة على نطاق واسع العديد من المبادئ السياسية والأيديولوجية في تعاليمه، الأفغانيوكما أشرنا في مقالات سابقة، كان زعيم ومؤسس الحركة الإسلامية القومية، وأشار إلى أن تراجع العالم الإسلامي يعود إلى سوء استخدامالدين وسوء تفسيره من أجل إضفاء الشرعية على النظام الاجتماعي والديني القائم، فلا بد من استبدال الاستبداد بنظام برلماني.
تلاميذ الأفغاني، الذين ينتمون إلى اتجاهات مختلفة في الإسلام، يشاركون بشكل كامل رؤية الإسلام كإيديولوجيا شاملة، مرتبطة ارتباطاًوثيقاً بالمهام السياسية الملحة، وكوسيلة لتعزيز التضامن الديني من أجل مقاومة الهيمنة الأجنبية، وفي الوقت نفسه، أشاد الأفغاني نفسهوأبطال الإصلاح الإسلامي الآخر بالعلوم والتكنولوجيا الأوروبية، وجادل الأفغاني بأن الإسلام ليس عدو العلم ودعا، مع الحفاظ على الطهارةالدينية والأخلاقية وقيم الإسلام، إلى إتقان وتبني الإنجازات العلمية والتقنية للغرب، نظراً لتميزه بمنهج عقلاني للفكر الديني الإسلامي، رأىالأفغاني في الدين قوة ديناميكية وخلاقة يمكنها إدراك أفكار الحداثة، كان يعتقد، أنه يجب دراسة جميع إنجازات التقدم واستخدامها فكرياًوسياسياً، لكن المشكلة الرئيسية، في رأيه، هي الحاجة إلى إعادة التفكير في الوصايا الحقيقية للإسلام من خلال تفسيره الجديد وإعادةدمجه في المجتمع الإسلامي، وجادل بأن انحطاط العالم الإسلامي كان عقاباً أنزله الله على حقيقة أن المسلمين لم يتبعوا قوانين الإسلام،ويجب عليهم إعادة اكتشاف قوانين الإسلام الصحيحة.
وعلى الرغم من أن الأفغاني لم يحل مسألة كيفية ربط المفهوم التقليدي لـ “الأمة” الإسلامية بفكرة الدولة القومية، في الواقع، يجد الإسلاميونالمعتدلون المعاصرون في تعاليمه مواقف سياسية تلبي أهدافهم وغاياتهم، كمؤسس الحداثة الإسلامية في القرن التاسع عشر، رأىالأفغاني أن الحركة الإصلاحية الجديدة في الإسلام قادرة على مقاومة التقدم الأوروبي.
وهنا أود الإشارة إلى أن لمعرفة تفاصيل ما يحدث يجب تتبع الخط الزمني لتلك الحقبة التاريخية وخلفياتها السياسية والاجتماعية، خاصةوأن من استشهدنا به تم طرده من عدة دول قبل أن يستقر به الحال، في مرحلة أواخر الدولة العثمانية، وبداية تقسيم الأمة، فلا بد من وضعالحياة السياسية بعين الاعتبار، لفهم وإدراك طبيعة تلك المرحلة وتأثر الإسلام وكيفية التعاطي قيمياً إن جاز التعبير، فالفترة التي أتى بهاالأفغاني كانت صعبة جداً خاصة وأنها كانت فترة ركود ديني كبير وتخلف ورجعية، وكان الإسلام محارباً، فمن الطبيعي أن يسخر السيدالأفغاني كل جهوده لخدمة الإسلام وهو المثقف والمتعلم والمتقن لعدة لغات.
“السيد جمال الدين” ويُقال “محمد جمال الدين” بن السيد صفتر الحسيني الأسد آبادي “الأفغاني”، (1838-1897) أيديولوجي ومفكرإسلامي وناشط سياسي، يُعتبر من مؤسسي حركة الحداثة الإسلامية وأحد دُعاة الوحدة الإسلامية في القرن التاسع عشر، جاب دولالعالم الإسلامي ومدن أوروبا لندن وباريس واستقر أخيراً في الأستانة “إسطنبول حالياً” وتوفي فيها.
علماء مسلمون مقربون من الأفغاني أشهرهم في القرن التاسع عشر – أوائل القرن العشرين. هما أمير علي (1879-1928) والشيخمحمد عبده (1849-1905)، سعيا لإيجاد طريقة للتوفيق بين الإسلام ليس فقط مع العلم والتكنولوجيا الغربيين، ولكن أيضاً مع الليبرالية،روج أمير علي ومحمد عبده لفكرة أن الإسلام يمكن إصلاحه، إذا لزم الأمر، ويمكن أن يظهر أصالته، مع الحفاظ على سلامته، وفي نفسالوقت مواكبة الحياة العصرية، لكن على الرغم من بعض الأفكار المتقدمة التي طرحوها في ذلك الوقت، لم يتمكنوا من تطوير عقيدتهم الخاصة.
في كتاب روح الإسلام، الذي نُشر عام 1890، قال المفكر العربي أمير علي أن كل الأفكار الأوروبية عن العدالة والتنمية مستعارة منالإسلام، لم يكن الأوروبيون قادرين على تنفيذها إلا في وقت مبكر، واستعاروا الإنجازات العلمية الإسلامية في العصور الوسطى، بالإضافةإلى ذلك، استخدم الأوروبيون العلوم الإسلامية لقمع المسلمين وجعلوا من الصعب عليهم التقدم اجتماعياً واقتصادياً في المستقبل.
سيد أمير علي (1849 – 1928م) قاض وكاتب ومفكر وزعيم هندي مسلم، سليل أسرة عربية تنتمي إلى آل البيت كانت تستوطن خراسان.
محمد عبده رئيس تحرير مجلة “المنار” المصرية في بداية القرن العشرين، يعتقد أن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يمكن للشخص المفكر أنيعتنقه، ولكن هناك عاملين سلبيين يمنعان ذلك: أولاً، الدعاية المعادية للمسلمين التي تقوم بها الكنيسة المسيحية، وثانياً، تدهور المجتمعالإسلامي يجعل فكرة الإسلام في الغرب خاطئة تماماً.
محمد عبده (1849م – 1905م)، مفكر وعالم دين وفقيه وقاضي وكاتب ومجدد إسلامي مصري، يعد أحد دعاة النهضة والإصلاح فيالعالم العربي والإسلام.
يعتقد تلاميذ الإمام محمد عبده المعاصرون، بالاعتماد على أفكاره، أن الإسلام لا يعيق التقدم، بل على العكس من ذلك، فهو في حد ذاتهعامل تقدم، لكن مصدر تخلف الدول الإسلامية هو أنه ليس في الإسلام المحافظ كدين، ولكن في الظلامية والاستبداد والابتكارات غيرالمشروعة. بناء على أطروحة أن القيم الإسلامية أعلى من القيم الأوروبية، فهم يرفضون القيم الغربية غير الأخلاقية، لكنهم يسمحون بإمكانيةاستخدام التقنيات والإنجازات الغربية في مجال العلوم والتكنولوجيا، في هذا السياق إن الأفغاني وعبده ومصلحين آخرين من القرن التاسععشر، وضعوا أسس “الإصلاح التقليدي” للإسلام، والذي يتمثل جوهره في “تحرير الإسلام من قرون من التراكمات التي شوهت بطريقة مانقاء فكره، وتحرير الشعوب المسلمة من السيطرة الاستعمارية وعواقبها”.
عبدالعزيز ببن بدر القطان / كاتب و مفكر – الكويت