◄ بوتين حالة استثنائية في القيادة وحامل لواء “القومية الروسية”
◄ ألكسندر دوجين عرّاب “روسيا البوتينية” ومهندس أيديولوجيتها
◄ “النظرية السياسية الرابعة” ترسخ لفكرة استنهاض الروح الروسية
في 24 من فبراير المُقبل، يكون قد مرَّ عامٌ بالكامل على بدء روسيا عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، والتي هدفت- كما تقول موسكو- إلى حماية “الأمن القومي الروسي” من “خطر الناتو”؛ حيث راودت النظام الروسي الحاكم بقيادة الرئيس فلاديمير بوتين مخاوف عميقة إزاء قيام حلف شمال الأطلسي “ناتو” ببناء قواعد أو نصب منصات دفاع جوي على الأراضي الأوكرانية بهدف ضرب روسيا أو في أضعف الاحتمالات أن يتحول تواجد “الناتو” إلى مصدر تهديد دائم.
ورغم ما حققه بوتين من تقدم عسكري في العمق الاستراتيجي الأوكراني، وسيطرة قواته على 4 مناطق تحولت فيما بعد- وفقًا للقانون الروسي- مناطق خاضعة لسيادة جمهورية روسيا الاتحادية، إلّا أن هذه الحرب كبّدت روسيا وأوكرانيا على السواء خسائر فادحة في العدة والعتاد من الناحية العسكرية، كما إنها تسببت في أقسى عقوبات في التاريخ على دولة، ومصادرة مئات المليارات المملوكة للحكومة الروسية، فضلًا عن التأثير الأعنف المُتمثل في تضاعف أسعار الغاز الطبيعي 4 مرات تقريبًا منذ بدء الحرب، وزيادة أسعار النفط لمستويات لم تشهدها منذ 7 سنوات، واضطرابات واسعة في الأسواق العالمية، وخاصة في أسواق الحبوب؛ حيث منعت الحربُ خروجَ السفن المُحملة بالقمح والذرة، وكل ذلك فاقم من أسباب الأزمة الاقتصادية العالمية، وما تعانيه الاقتصادات الآن من بوادر ركود حاد يُهدد النمو الاقتصادي في ثلثي الاقتصاد العالمي تقريبًا. ومع ذلك لم يتوقف بوتين عن مواصلة عمليته العسكرية، ولم يتراجع قيد أنملة عن بلوغ الأهداف التي رسمها بدقة قبل اندلاع الحرب، ولا تلوح في الأفق أي بادرة تشير إلى احتمال أن تضع الحرب أوزارها لبدء محادثات السلام، أو ما يمكن أن أسميه مفاوضات اعتماد روسيا قطبًا آخر في هذا العالم الجديد الآخذ في التشكُّل.
ما سبق يدفعنا لطرح سؤال عميق لن تكون الإجابة عليه يسيرة؛ وهو: كيف يُفكِّر بوتين؟ أو بعبارة أخرى من أين يستقي بوتين أفكاره وتوجهاته؟ وما الفلسفة التي يعتمد عليها من أجل تحقيق أهدافه؟
هذه الأسئلة شغلت بال المُراقبين والمحللين ومراكز الأبحاث وغيرها، ليس فقط منذ نشوب الحرب في أوكرانيا، ولكن منذ صعود بوتين إلى سُدة الرئاسة، وتحركاته السياسية للبقاء في السلطة، من خلال تولي رئاسة الوزراء تارة في عهد الرئيس السابق ديميتري ميدفيدف، وتارة أخرى عندما تولى هو منصب رئيس الدولة، حتى استقر به الحال أن عدّل الدستور الروسي ليضمن بقاءه في السلطة دون قيد أو شرط. وازدادت الرغبة في التفتيش في عقل بوتين ومحاولة استنطاق أفكاره، بعد التطورات العسكرية التي حدثت في أبخازيا وأوسيتيا بجمهورية جورجيا في 2008، ثم في شبه جزيرة القرم عام 2014.
الوقائع تُشير إلى أنَّ بوتين يُمثل حالة استثنائية في قيادة الدولة الروسية منذ سقوط الاتحاد السوفييتي في عهد الرئيس الراحل ميخائيل جورباتشوف، ويحمل على عاتقه عبء النهوض بالقومية الروسية كما يراها، والتي يُؤكد أنها يجب أن تتسم بكل صفات وأخلاقيات الحضارة الروسية، وليس الحضارة السوفييتية، فهو يُميز بشدة بين الاثنتين، ويرى أنَّ حضارة القومية الروسية أشمل وأعمّ من أي مفهوم حضاري آخر. وهذا يُعطينا ملمحًا شديد الوضوح على أنَّ بوتين لا يُريد استعادة الأمجاد السوفييتية، بقدر رغبته في استعادة الهوية الروسية التي تقوقعت داخل الشرنقة الغربية، ومن ثم يأمل إعادة إحياء “روسيا التاريخية”، التي تعتمد على قِيَمِها الحضارية والروحية، وليس بناءً على نظام فكري مُعين أو منظومة اقتصادية؛ سواء كانت الليبرالية أم الشيوعية.
لكنَّ فيلسوفًا وكاتبًا قوميًا مُؤثرًا كان له الدور الأكبر في بناء وهندسة وهيكلة وبلورة فلسفة الرئيس بوتين، إنِّه الفيلسوف الروسي ألكسندر دوجين، ذلك الذي يصفه الإعلام الغربي بأنَّه “عقل بوتين”، أو “عرّاب روسيا البوتينية”. وفي الحقيقة المُسميات لا تعني شيئًا سوى التصنيف، غير أنَّ ما يعنينا هنا هو النظر في طبيعة تأثير دوجين على عقلية بوتين، حتى نتمكن من استشراف المستقبل والتنبؤ بما قد تؤول إليه الأحوال خلال المرحلة المُقبلة، في الوقت الذي لا تلوح فيه أية آفاق تشير إلى احتمالية انتهاء الحرب في أوكرانيا، وفي المُقابل، تتزايد وتيرة التسليح الغربي لنظام كييف؛ الأمر الذي يشي بأنَّ أمد الحرب سيطول، وأنَّ المصاعب الاقتصادية ستستمر، ومن ثم نتأثر نحن، سواء بتقلبات أسعار النفط، أو الركود الاقتصادي الذي بات يضرب الاقتصادات واحدًا تلو الآخر.
أما فيما يتعلَّق بفكر دوجين الذي يعتمد عليه بوتين في بلورة أهدافه وبناء رؤيته لمستقبل روسيا- وبالأخص مفهومه للقومية الروسية- فإنِّه يستند إلى 3 ركائز:
أولًا: استعادة قوة “الأمة الروسية الكبرى” في إشارة إلى الأقاليم والدول التي كانت خاضعة للاتحاد السوفييتي أو تلك التي تتحدث اللغة الروسية، وهي ركيزة البناء القومي للمجتمع على أسس الثقافة والهوية والمعتقد الديني (المسيحيَّة الأرثوذكسية).
ثانيًا: اعتماد “النظرية السياسية الرابعة” نموذجًا حضاريًا يُؤكد على الوعي الذاتي للإنسان، وهي نقيض للنظريات الحضارية الأخرى مثل الليبرالية أو الشيوعية؛ باعتبار أنها لا تستهدف وعي الإنسان؛ بل استنزاف طاقته، وهذا الوعي الذاتي يُمثل السبيل نحو بناء نظام عالمي مُتعدد الأقطاب بناءً على تعدد وعي البشر دون تشابه، وتأكيد ضرورة أن تكون لكل دولة منظومة قيم خاصة تمثل الثوابت والمرتكزات الحضارية لها. وتنوع القوميات حول العالم يُثري نموذج “التعددية القطبية”.
ثالثًا وأخيرًا: ترسيخ “السلطة الأخلاقية الروسية”، من خلال “استنهاض الروح الروسية”؛ باعتبار أنَّه يقع على عاتق روسيا الآن مسؤولية أخلاقية عالمية لإعادة هيكلة العالم، وبناء نظام عالمي جديد يرتكز على التعددية القطبية، وهذه المسؤولية الأخلاقية تتعاظم بسبب الهيمنة الأمريكية على العالم، ورغبتها في فرض نموذجها الحضاري، وهو ما يُحتّم ضرورة خوض مواجهة مباشرة مع الحضارة الغربية بقيمها التحررية المُبالغ فيها (المثلية الجنسية نموذجًا) والاستعلائية (فكرة تفوّق العرق الأبيض).
ويبقى القول.. إنَّ الحديثَ عن “إمبريالية بوتين” يمكن دحضه من خلال محاولة استيعاب رغبته في تعزيز مكانة روسيا كدولة مناهضة للأحادية القطبية التي تقودها الولايات المُتحدة منفردةً وتضع الغرب تابعًا لها وليس حتى شريكًا في صناعة القرار العالمي، وما التدخل في سوريا ودعم النظام الحاكم هناك، وكذلك ما حدث في جورجيا وأوكرانيا، وما قد يحدث مُستقبلًا، ليس سوى محاولة بوتينية لوقف التمدد الغربي وقطع رأس أفعى الأحادية القطبيّة.. ولذلك فإنَّ معركة بناء النظام العالمي الجديد ما زال أمامها مزيد من الوقت كي تتضح الملامح وتستقر أعمدته وركائزه.
حاتم الطائي