تُعد الكاريزما من أهم حلقات الاتصال الجماهيري الناجحة في واقعنا الاجتماعي، فهي طريق سلس لاكتساب العقول والقلوب، وهي الأرضية المتينة التي يمكن من خلالها أن يُعزِّز المتحدث المُخاطَبين بما تجود به بنات أفكاره وقيمه ومبادئه بصورة سجيَّة ناعمة غير محسوسة، وربما تجعل المرء في قمة القُدوة المُثلى عند الجمهور على اختلاف أطيافهم العمرية والفكرية والمجتمعية، وكثيرًا ما نسمع عن مصطلح “الكاريزما الجاذبة” أو “الكاريزما الاجتماعية”، فماذا تعني؟ وكيف يكون مسار اكتسابها وتحقيقها؟ وما هي صفات أصحاب الكاريزما الاجتماعية؟
يمكننا إيجاد ماهية الكاريزما بالشخصية المُميَّزة الجاذبة، والتي يمكن أن تُبرزك في جمع غفير متباين الثقافات والأفكار والمبادئ والتوجّهات والانتماءات، إلا أن شخصيتك تمتلك هالة جاذبة خاصة تُميّزك عمن حولك، وتجعلك محل ارتياح واطمئنان لدى الآخرين؛ فيتلذذون بالحديث معك، ويفضفضون بما في قلوبهم، ويشعرون بالأمن العاطفي والروحي حينما يكونوا حولك؛ حيث يستنطقون الإيجابية والنجاح في قلوبهم حينما تكون حاضرا في محفلهم أو مناسباتهم أو مواقف حياتهم الخاصة والاجتماعية؛ لما تمتلكه من مهارات حِرفية ودقيقة في التعامل.
تُشير الدراسات البحثية ذات الصلة بعلم الاجتماع والتربية وعلم النفس إلى أن بناء هذه الكاريزما لا يأتي من باب الصُدفة أو الطبيعية، بل هي بناء مرحلي مُتراكم يُعزِّز المهارات الواقعية بكل دقة وحرفية، وأول خطوات نجاحك لكسب قلوب المُخَاطبين هي الثقة بنفسك، فكن واثقا بقدراتك ومهاراتك وملكاتك، لا تسمح للشكِّ والتردد أن يكون له موطئ قدم في منظومة نجاحاتك. وفي المقابل لا تكن واثقًا بدرجة تدخلك في مستنقع التعجرف والتباهي، عليك أن تضبط طرفي المعادلة بأمن وأمان واستقرار، فلا تُظهر مواطن ضعفك ولا تبالغ في إبراز جوانب تميّزك، كن طبيعيًا قدر ما تستطيع. وعليك أيضًا أن توزع وقتك بالتساوي، فحينما تكون في حشد من الناس وتريد أن تُفاضِل فئة عن أخرى كن فطِناً ولبِقاً في الانتقال السلس بين من حولك، فلا تُفرِّط في التعامل مع فئة دون أخرى، ولا تُفاضِل بصورة فاضحة بين من تعتقد بأهميتهم على حساب قاعدة جماهيرك العريضة، وتجنَّب انتقاد الآخرين مهما كان الموقف والظروف، فسجيِّة المرء الامتعاض من الانتقاد.
القاعدة الثالثة تتطلب منك أن تقرأ الموقف بدقة ووعي مستفيضين، فالذكاء الانفعالي أساس كسب الرِهان في المواقف الآنية، فحينما يفاجئك الآخرون بإعجاب أو أو بتقصُّد فإن ذلك يتطلب منك سرعة البديهة والتصرف الإيجابي، فلا تكن منفعلا منزعجا بل تقبل الأمر بروح رياضية وبحكمة، وكما أُثر عن نبي الأمة “الدِّين المُعاملة”. والقاعدة الرابعة تقوم على “لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك” فرُّب كلمة طيبة فتحت أبواب قلوب صمَّاء، ورُّب كلمة أقفلت قلوب الرُحماء، فانتقي مفرداتك، وهذِّب لغتك، فالكلمة سحر البيان، وسيمفونية الإلهام، والعالم يعجُّ بأشخاص صنعوا مملكة جماهيرية بصمتهم أو بنزر حديثهم، فانتقي مُفردات تبعث بالروح والتفاؤل والنجاح والإيجابية والسعادة ونشر الخير والتسامح، فهي مفاتيح آسرة للقلوب ولو بعد حين.
أما القاعدة الخامسة فعليك أن تجمح انفعالاتك بكل هدوء واطمئنان، فمن يتمتع بالكاريزما الاجتماعية يغلبُ عليهم صفة السكينة، فلا يحدث ضجيجا حينما ينتقده الأخرون، ولا يحاول أن يفرض رأيه وموقفه على الحضور، ولا يتهجَّم أو يتجهم أو ينزوي حينما يُراد له أن ينفعل، وهو دلالة على تراكم الخبرة والرزانة. والقاعدة السادسة عليك أن تكون واضحا بيِّناً في حديثك، فلا تُراوغ ولا تجعل نقاشك قابلا للتأويل والأقاويل والتشكيك، قدِّم رسالتك الظاهرة أو الخفيَّة في قالبٍ مُشرق مفهوم بعيدا عن التعقيدات والفلسفة المُفرطة، واجعل مخارج ألفاظك ومفرداتك واضحة غير مرتبكة أو مهزوزة. والقاعدة السابعة تدفعك نحو انتقاء الملابس المناسبة؛ فعليك الاهتمام بأدق التفاصيل التي قد تعتقد أنها هامشية لكنها محل اهتمام لمن يراك ذا كاريزما اجتماعية مُميَّزة، فحينما تكون في محفلٍ رسمي كندوة ثقافية وعلمية أو مؤتمر أو مجلس يحضره أعيان المجتمع يتطلب منك أن تكون مُهندماً بصورة رسمية أنيقة، وهو ما يُخالف حضورك على سبيل المثال في نادٍ رياضي أو ملتقى شبابي يجعل من لبسك الرسمي تكلُّفاً غير مقبول، فكن لبقاً ولائقًا في لبسك حسب الموقف الذي تكون فيه.
قاعدتنا الثامنة تتطلب أهمية توظيف لغة الجسد، فجونافارو وهو وكيل مكتب التحقيقات الفيدرالي المتقاعد ومؤلف الكتاب الأكثر مبيعًا في أمريكا “ماذا يقول كل جسد؟” يقول: “لغة الجسد هي الأهم في التواصل وترسل رسائل كاملة حتى قبل أن تفتح فمك” ونعني بلغة الجسد أن يكون هناك توافقا بين حديثك وملامح وجهك ويديك واتجاه جسدك نحو المُخاطَب، فلا يمكن أن تكون في حديث إيجابي متفاعل وتظهر على وجهك ملامح الكآبة والضيق والسآمة والعكس صحيح، كما ينبغي عليك ضبط حركة يدك فلا تكن مشتتة ومزعجة لآخرين، وأما قاعدتنا التاسعة والأخيرة فهي تدعوك لأن تكون مُتزِنا في حديثك “غير ثرثارٍ” فكما قيل “لكل مقام مقال”، فحينما تجد نفسك وسط معمعة حديث بين الآخرين وأنت تعلم أنك لا تجيد الخوض فيه فلا تحشر نفسك وتُقلِّل من قيمتك ومقامك أمامهم، فالصمت هنا هو أبلغ من الحديث، كما يتطلب منك أي حديث أن تفهم كل تفاصيله وحيثياته فلا تأخذه مجتزءا فتكون في موقف مُحرج، وكذا الحال حينما تلتقي بأشخاص لأول مرة ليس من الجيِّد أن تسترسل في الحديث إلا حينما تفهم شخصياتهم وتستوعبها وتعتقد أنك تستطيع اكتسابهم كأصدقاء جدد.
د. سلطان بن خميس الخروصي