ثمّة جدليَّة واسعة النطاق في أدبيات التنظير الإعلامي حول الأولوية والريادة في صنع القرارات في المجتمعات الديمقراطية، التي تهدف في الأساس إلى دمج الأفراد أو ما يعرف بـ”المجتمع المدني” في المشاركة في صنع القرارات التي تتعلق بمستقبل الأمة، خاصة في المجالات التنموية والاقتصادية بشكل عام.
ونظرية ترتيب الأولويات (Agenda Setting) التي ظهرت على الساحة الإعلامية في منتصف القرن العشرين، لم تحسم من الذي يرتِّب أولويات وسائل الإعلام، لكنّها في نفس الوقت أكدت وجود عدة جهات في أي مجتمع تتنازع على الصدارة والأحقية في اتخاذ القرارات المتعلقة بمضامين ما يُنشر في وسائل الإعلام وتوجيهها في الاتجاه الذي يتوافق مع المجتمع أو أصحاب النفوذ.
هذه الجهات المتصارعة، تتمثل في القادة الذين يضعون السياسات العامة للبلد بشكل أحادي خاصة في دول العالم النامي، الذي تسود فيه النزعة الدكتاتورية والهيمنة على الساحة السياسية والأمنية والاقتصادية في مجتمعات ما يُعرف بـ”العالم الثالث”، فهؤلاء لهم السيطرة المطلقة على الإعلام الذي ينفِّذ توجهاتهم وخطابتهم الرنانة، ولا يناقش القائمون على وسائل الإعلام من حكومية وخاصة، مدى شرعية تلك السياسات أو تأثيرها على الناس المُستهدفين بها. والعكس في الدول الديمقراطية التي تنتهج نهجًا مغايرًا يسمح بمشاركة أكبر عدد من الأفراد في وضع السياسات العامة وتنفيذها أيضًا؛ حيث يعمل الإعلام كمنصة لتبادل الأفكار ومناقشتها وبلورتها، وذلك لصنع القرارات التي تخدم جميع الأطراف؛ القادة والمجتمع على وجه العموم.
أما الجمهور أو المجتمع الذي يفترض أن يكون في المقدمة في ترتيب ما ينشر في الصحف والإعلام الإلكتروني لكون الشعب هو صاحب السيادة والقوة، وإن كانت غير منظورة، فتتجاهله وسائل الإعلام في كثير من الأحيان وتهمّشه، إلا عند ما تتوافق مصالح الساسة مع المجتمع في بعض القضايا الوطنية، خاصة عندما تكون الدولة في حالة حرب أو صراعات مع أطراف خارجية. وعلى الرغم من أن الجمهور هو الهدف النهائي والغاية التي يسعى لكسبها القادة والإعلام على حد سواء، ذلك لكونه يستقبل الرسائل الإعلامية ويتفاعل معها وقد يرفضها ويتجاهلها، وعند ما يحصل ذلك يخسر الإعلاميون مصداقيتهم ويخسرون كذلك الموارد المالية التي تأتي من السوق، وخاصة الشركات الكبرى التي تخصص موازنات سنوية للإعلانات التجارية ويكون البديل هو التمويل الحكومي والهبات وتتحول البرامج والفنون الصحفية المختلفة لمنصات دعائية، مما يدفع الناس للتوجه إلى الإعلام الدولي الذي يصبح المصدر الرئيس للأخبار والمعلومات بين أفراد المجتمع.
وإذا أخدنا التجربة العمانية في صنع القرار الوطني وتمكين المواطن العادي في المشورة، فقد اعتمدت رؤية “عُمان 2040” على قاعدة عريضة من المشاركة المجتمعية في مختلف ولايات السلطنة؛ إذ بلغ عدد المشاركين في صياغة الرؤية أكثر من 41 ألف مواطن، يُشكِّل الشباب منهم 40%، وكان الإعلام العماني حاضرًا بقوة في حشد هؤلاء للمشاركة، وكذلك لشرح وتوضيح الأهداف العامة والخطوط العريضة لهذه الاستراتيجية الوطنية الطموحة.
لا شك أن الكل في ربوع هذا الوطن العزيز ينتظر بفارغ الصبر جني ثمار الإنجازات والأهداف الوطنية لهذه الرؤية، على الرغم من دخولنا السنة الثالثة من عمر رؤية “عمان 2040″، لكن يبدو لي أن القائمين على الاستراتيجية يعملون بصمت، كما يُقال، ويطبخون على نار هادئة بعيدًا عن أضواء الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وقد غاب عن المنفذين للخطة أنَّ هناك تساؤلات مجتمعية واسعة النطاق حول ذلك الصمت، والسؤال المطروح الآن: لماذا لا يُعقد لقاءٌ سنويٌ مع وسائل الإعلام لكشف ما تم تحقيقه من أهداف الرؤية المستقبلية الطموحة؟ وكذلك الحديث عن التحديات التي تواجه المسؤولين عن الرؤية إن وجدت.
ومن النماذج الرائعة في التواصل مع المواطن، الجولات السنوية التي كان يقوم بها السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- للولايات بصحبة الوزراء والمسؤولين، حيث كان يلتقي بالمواطنين ويستمع إلى آرائهم حول السياسات الوطنية في التنمية الاقتصادية وجودة الخدمات التي تقدمها الوزارات لهم، وكانت هذه اللقاءات تمثل نافذة مهمة وعينًا ثالثة لرد فعل المواطن على المشاريع التي تنفذ في المحافظات، بينما تُرصد احتياجات المواطنين في المناطق البعيدة لكي تضمن في الخطط المستقبلية للدولة.
كما إن حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- انتهج سياسة الأبواب المفتوحة مع المجتمع، فمنذ تولي جلالته مقاليد الحكم في 2020، عقد جلالته لقاءات مفتوحة، وكانت البداية بشيوخ وأعيان محافظة ظفار، ثم توسعت هذه اللقاءات لتشمل جميع محافظات السلطنة؛ إذ تخلل هذه الاجتماعات الشعبية تبادل الأفكار والرؤى حول مستقبل الوطن والمواطن.
أما أعضاء مجلس الشورى الذي حظوا بأصوات الشعب العماني في الانتخابات، فدورهم لم يرقَ بعد لمستوى الطموح، ذلك لكون المجلس مقيد بإجراءات السلطة التنفيذية وعدم تمكينه من صلاحيته المنصوص عليها في القانون، وخاصة في مجال استجواب الوزراء وتعديل بعض القوانين والتشريعات التي لها صفة السيادية.
وفي الختام.. على الوزارات الخدمية التي وُجدت لخدمة المواطن أن تُعيد النظر في بعض القرارات التي تفتقد للمنهجية العلمية والمنطق الإنساني، فقد حان الوقت للمسؤولين أن يتمعنوا وينصتوا لرأي المواطن قبل إصدار قرارات قد تكون مجحفة.
من هنا ندعو عبر هذه النافذة إلى دراسة وتمحيص البرامج والاستراتيجيات الوطنية التي تضعها الوزارات والهيئات الحكومية على المستهدفين من أبناء المجتمع، وذلك من خلال عرض تلك القرارات والمشاريع في المؤتمرات الصحفية، وذلك لتجنب الأخطاء وتوجيه بوصلة القرار الوطني في الاتجاه الصحيح.
د. محمد بن عوض المشيخي/ أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري