المعاناة الاقتصادية وجنون الاسعار والمساس بأقوات الناس وفقدان الأمل فى المستقبل والتضليل الاعلامى والوعود الحكومية الكاذبة، كلها اسباب تبرر غضب الشعب وزحفه وتلاحمه دفاعا عن حياته وقوت يومه.
كانت هذه هى خلاصة حيثيات الحكم الذى اصدره المستشار الراحل الجليل/ حكيم منير صليب فى قضية انتفاضة يناير 1977 والذى قضى فيه بعفوية الانتفاضة وبراءة 176 متهما قدمتهم النيابة الى المحاكمة بتهمة تدبير المظاهرات والتحريض عليها.
ولقد كان حكما عادلا وشجاعا وتاريخيا بالإضافة الى كونه حكما مرجعيا:
· فهو عادل لأنه رصد وانطلق وصادق على حقيقة ما حدث بالفعل من وقائع وأحداث، بأنها كانت هبة وانتفاضة شعبية تلقائية فى مواجهة ظلم السلطات واكاذيبها، وليست مؤامرة شيوعية كما صنفتها النيابة وتقارير أمن الدولة، أو انتفاضة للحرامية كما وصفها السادات.
· وهو حكم بالغ الشجاعة لصدوره بالمخالفة لإرادة وتوجيهات القيادات السياسية والأمنية للدولة وخطابها الرسمى، وهو أمر نادر الحدوث فى مصر فيما يتعلق بالقضايا السياسية.
· وهو ما يفسر لنا لماذا لا يزال الرأى العام الشعبى والقانونى يحتفى به حتى اليوم، ويحفر أسماء قضاته وعلى رأسهم المستشار “حكيم منير” فى سجلات التاريخ.
· وما زلنا نتذكر ما سطره شيخ القضاة ومؤسس تيار الاستقلال المستشار الراحل/ يحيى الرفاعى معلقا على سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء فى مقال بعنوان ((جرجرة)) حين قال:
((فى بعض بلاد العالم يصبح القاضى المتمسك باستقلاله كالقابض على الجمر … فلا يستطيع ان يعلن حكما تستاء منه الحكومة قبل ان يراجع نفسه الاف المرات، فليس صحيحا على اطلاقه انه لا سلطان على القضاء الا للقانون وضمائرهم ، فالسلاطين كثير)).
· وبالإضافة الى كل ذلك فإنه يعتبر أحد أهم الأحكام المرجعية فى قضية الساعة وكل ساعة، وهى حق الشعوب فى التعبير عن غضبها والدفاع عن نفسها فى مواجهة تعنت السلطات وقراراتها وسياساتها الاقتصادية التى تهدد معايشها وقوت يومها، وعلى رأسها تعليمات و روشتات الدائنين الدوليين وممثلهم صندوق النقد الدولى العدو الأول للشعوب ولعامة المصريين منذ عام 1977 حتى اليوم.
· ولذا أتصور أنه من الأهمية بمكان ونحن نتعرض اليوم لهجمة جديدة من صندوق النقد أكثر شراسة بمئات المرات من هجمة 1977، أن نتوقف عند هذا الحكم وعند ظروف البلاد والعباد التى أحاطت به واستدعت صدوره، وأن نطلع على ما ورد حرفيا فى حيثيات الحكم بالبراءة فيما يلى:
((ولكن المحكمة وهى تتصدى لتلك الأحداث بالبحث والاستقصاء لعلها أن تستكشف عللها وحقيقة أمرها لابد أن تذكر ابتداء أن هناك معاناة اقتصادية كانت تأخذ بخناق الأمة المصرية فى ذلك الحين وكانت هذه المعاناة تمتد لتشمل مجمل نواحى الحياة والضروريات الأساسية للإنسان المصرى، فقد كان المصريون يلاقون العنت وهم يحاولون الحصول على طعامهم وشرابهم ويجابهون الصعاب وهم يواجهون صعودا مستمرا فى الأسعار مع ثبات مقدار الدخول، ثم إن المعاناة كانت تختلط بحياتهم اليومية وتمتزج بها امتزاجا فهم مرهقون مكدودون فى تنقلهم من مكان إلى آخر بسبب أزمة وسائل النقل وهم يقاسون كل يوم وكل ساعة وكل لحظة من نقص فى الخدمات وتعثر فيها، وفوق ذلك كان أن استحكمت أزمة الإسكان وتطرق اليأس إلى قلوب الناس والشباب منهم خاصة من الحصول على مسكن وهو مطلب أساسى تقوم عليه حياتهم وتنعقد آمالهم فى بناء أسرة ومستقبل، وسط هذه المعاناة كان يطرق أسماع المصريين أقوال المسؤولين والسياسيين من رجال الحكومة فى ذلك الوقت تبشرهم بإقبال الرخاء وتعرض عليهم الحلول الجذرية التى سوف تنهى أزماتهم وتزين لهم الحياة الرغدة الميسرة المقبلة عليهم، وبينما أولاد هذا الشعب غارقون فى بحار الأمل التى تبثها فيهم أجهزة الإعلام صباح مساء إذ بهم وعلى حين غرة يفاجأون بقرارات تصدرها الحكومة ترفع بها أسعار عديد من السلع الأساسية التى تمس حياتهم وأقواتهم اليومية، هكذا دون إعداد أو تمهيد، فأى انفعال زلزل قلوب هؤلاء وأى تناقص رهيب فى الآمال وقد بثت فى قلوبهم قبل تلك القرارات وبين الإحباط الذى أصاب صدورهم ومن أين لجل هذا الشعب ومعظمهم محدود الدخل أن يوائموا بين دخول ثابتة وبين أسعار أصيبت بالجنون، وإذا بفجوة هائلة تمزق قلوب المصريين ونفوسهم بين الآمال المنهارة والواقع المرير، وكان لهذا الانفعال وذلك التمزق أن يجدا لهما متنفسا، وإذا بالأعداد الهائلة من هذا الشعب تخرج مندفعة إلى الطرقات والميادين وكان هذا الخروج توافقيا وتلقائيا محضا، وإذا بهذه الجموع تتلاحم هادرة زاحفة معلنة سخطها وغضبها على تلك القرارات التى وأدت الرجاء وحطمت الآمال، وحاولت جهات الأمن أن تكبح الجماح وتسيطر على النظام، ولكن أنى لها هذا والغضب متأجج والآلام مهتاجة، ووسط هذا البحر الهادر وجد المخربون والصبية سبيلا إلى إرضاء شهواتهم الشريرة، فإذا بهم ينطلقون محرقين ومخربين ومتلفين وناهبين للأموال وهم فى مأمن ومنجاة وقد التهبت انفعالات هاته الجموع وتأجج حماسهم عندما تعرض لهم رجال الأمن المركزى بعصيهم ودروعهم وقنابلهم المسيلة للدموع، فكان أن اشتعلت الأحداث وسادت الفوضى ولم يكن من سبيل لكبح الجماح وإعادة الأمن والنظام إلا فرض حظر التجوال ونزول رجال القوات المسلحة إلى الميدان وأمكن حينئذ، وبعد جهد خارق استعادة الأمن والنظام. والذى لا شك فيه وتؤمن به المحكمة ويطمئن إليه ضميرها ووجدانها أن تلك الأحداث الجسام التى وقعت يومى 18 و19 يناير 1977 كان سببها المباشر والوحيد هو إصدار القرارات الاقتصادية برفع الأسعار فهى متصلة بتلك القرارات اتصال المعلول بالعلة والنتيجة بالأسباب)).
محمد سيف الدولة
القاهرة فى 22 يناير 2023