قبل عام السَّبعين كنَّا في عُمان نعيش حياة العصور الوسطى، فوسائلنا في النقل هي الحمير والبغال والجمال، ورغم أنني كنت صغير السن في ذلك الزمان، إلا أنني كنت أسمع وأرى كيف كان أهلنا يوازنون الحمولة على ظهور الدواب، حتى إنهم يضطرون إلى استخدام ثقل كالحصا (مثلًا) في الموازنة، لكيلا تميل الحمولة وتنزلق وتسقط من على ظهر الدابة، إذن برغم بساطة الحياة ووسائلها، إلا أنها كانت تحتاج إلى الحكمة والخبرة، وذلك من أجل أن تصل تلك الحمولة إلى هدفها الأخير سالمة وكاملة.
وقد يتساءل البعض لماذا لم تكن الموازنة من نفس المواد؟! فأقول لهذا المتسائل؛ إنه بحكم الأمانة يتعذر أحيانًا موازنة الأمور من جنس الحمولة، فهناك جربان التمر وهذا اسم يطلق على أوعية التمر وهو (جراب) وجمعها جربان، ولا تكون متساوية في الثقل، وذلك بحكم الكمية في كل جراب، ولا تستطيع أن تنقل التمر من جراب إلى آخر، فهي أولًا لا تكون ملك شخص واحد، ولعدة أسباب أخرى يصعب شرحها هنا لأنها أسباب كثيرة، وبعضها أسباب موضوعية، والبعض الآخر فني وخاص بالتخزين، ولكن يظل هناك حرص كبير على موازنة الحمولة.
إذن.. الآباء والأجداد كانوا يهتمون بموازنة الأمور، وكذلك لا يتطرفون في الركب، حتى لا تسقط بهم الحمولة، أو تنزلق من على ظهر الدابة، فما بالنا اليوم نرى العرب لا يستون في ركبهم؟! ومركوبهم في طريقة ذات إنحدار شديد، وهو طريق شاق وصعب وكثير التعرجات، والحمولة تبدو منزلقة إلى متاهة لا يعرف منتهاها إلاّ الله وحده.
ترى لماذا بعض العرب تعودوا المسير باتجاه المستعمرين القدامى؟ ولماذا يعطونهم الثقة التامة والمحبة وحسن الظن فيهم؟! ولماذا نفترض ذلك قائمًا في الغرباء أكثر من غيرهم؟! لكن المستعمر الغربي الذي يبتغي البعض منه الحماية، فهو ينظر إلى هؤلاء على أنهم شعوب متخلفة، لا تستحق منه عناءً كثيرًا، وهم ينظرون إلى بعض العرب نظرة شزراء ودونية بالغة، والعرب يغضون الطرف عنهم كما يعذر العشيق معشوقته في كل زلاتها وهفواتها.
هذا الغرب الظالم يكاد اليوم، أن يغرق في طوفان عاصف، يجرهم إليه خبثهم، وظلمهم المستطير عبر التأريخ، وكأن الظلم دائمًا في خدمتهم، وليس له نهاية وهو في طوع أيديهم، أو أنه لا يرتد عليهم ظلمهم بنفس القدر والاتجاه، وما علموا أن للكون حكمًا عدلًا (هو الله السميع العليم)، يقلب الأحوال والأمور بين ساعة وأخرى، وعباده الصالحين رهن طاعته وأمره.
لكن إذا كانت المجتمعات البدائية البسيطة توازن شأنها بجهد منها وخبرتها الفطرية، بينما بعض الحكام في العالم العربي يستعينون بجحافل من الخبراء والمستشارين، ألّا يعينونكم بالرأي والمشورة؟! حتى تحتاطوا لنوائب الدهر وتقلباته، أتظنون أنَّ الحرب بين روسيا والغرب في أوكرانيا حرب عبثية.. ولن تغير ساكنًا؟!! ذلك إذن والله قمة الاستهتار والاستخفاف بالأمور.
لا.. إن هذه الحرب ليست عبثية، والكل كان يعد لها عدتها- عدا نحن العرب الذين وضعنا أنفسنا في موضع المفعول به مجرور إلى الهاوية- وروسيا لن تخرج منها بلا نتيجة؛ بل ستنتصر وتفرض شروطها وترسخ أقدام عالم متعدد الأقطاب، وهذا أمر سيكون في مصلحة الجميع، وغير ذلك معناه الحرب النووية، ودمار هائل في الكرة الأرضية، طبعًا ليس كل شيء متروك للبشر، فتلك القدرة الإلهية لن يمنحها الله لأحد من خلقه، مصداقًا لقوله تعالى: “لَن يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى..” (آل عمران: 111) وقال تعالى: “قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا” (مريم: 75)، فلن يدمروا الكون كما يزعمون، لكنهم سيقضون على الحداثة الحالية، وكل أسباب الرفاهية والتمدن، وإن حدث ذلك فهو بتقدير من الله عز وجل وبعلمه وفيه نكال للناس بظلمهم.
ورغم السيناريو المهول الذي يتحدثون عنه، ما زال هناك حكام يهملون الأخذ بأسباب النجاة، والحذر من الأهوال التي تجري أمام أعينهم، ويركبون رواحلهم ورجليهم متدلية باتجاه الغرب، وبرغم أنهم يرون هذا الغرب غارقا في وحل الحرب الأوكرانية، وأمريكا تدفع بأوروبا داخل الفك الروسي وذلك على عادتها، فيحترق العالم كله، ثم تأتي هي لتأخذ الغنائم، ولكن “ليس في كل مرة تسلم الجرة” كما يقول المثل، هي وأم الخبائث معها من مصاصي دم الشعوب بإذنه تعالى لن تسلما هذه المرة.
حمد بن سالم العلوي