احتفت جمهورية ايران الاسلامية اليوم بذكرى ثورتها الرابعة والأربعين، هذه الثورة التي فجرها الشعب الايراني عام 1979م بقيادة الإمام الراحل آية الله الخميني الذي كان يبث خطاباته الروحية الحماسية من باريس كقائد تاريخي لأحد أهم الثورات في التاريخ المعاصر، ولننتطرق في سياقنا التالي الى ارهاصات الثورة وأسبابها ووضع ايران الملكية قبل ذلك التاريخ ولكننا نكتفي بالقول أن ايران كانت تسمى”شرطي” الولايات المتحدة في المنطقة، وكانت السفارة الامريكية تقع على مساحة كبيرة في قلب العاصمة طهران ومع بداية الثورة قامت مجموعة من الطلاب الثائرين باحتلال السفارة الامريكية معلنة أن أولى مراحل الثورة هو التخلص من التبعية للقوى الاستعمارية ودخول عهد جديد يقوم على الاستقلال الوطني والاعتماد على الذات في تطوير البلاد .
لقد اعتمدت ايران على استثمار ثروات البلاد لصالح الشعب الايراني والدفاع عن مصالح الوطن الاستراتيجية والسعي لتطوير البلاد صناعيا وعسكريا لبناء جيش قوي قادرا على صد التهديدات الخارجية وكذلك في بعض المجالات الأخرى مثل التكنولوجيا النووية والطب والاسلحة البالستية، كل تلك التطورات بنيت على قواعد سياسية متينة ومرجعية نظام قوي حافظ على حالة من الثبات والصمود في وجهالضغوطات الخارجية والعقوبات الدولية طوال (44) عام، بل طوعت ايران تلك العقوبات فوصلت الى مرحلة متقدمة من العلوم نافست بها القوى الدولية المتقدمة على الصعيد الدولي، ومع تزايد مستوى الضغط الذي وصل الى مرحلة التهديد بتوجيه ضربات عسكرية بقيت إيران على نهجها الثابت المقاوم دون تفريط في مساراتها الاستراتيجية لتقدم نفسها ضمن القوى الصاعدة على الساحة الدولية، وفي إطار برنامجها النووي وضعت ايران تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية في محاولة غربية لحجب التكنلوجيا النووية عن جمهورية إيران الاسلامية إلا أن ايران قدمت في المفاوضات النووية مع مجموعة 5+1 نموذجا استثنائيا في سياسة النفس الطويل وأجبرت تلك القوى على الجلوس معها لتوقيع اتفاقية نووية في عام 2015م إلا ان انسحاب ادارة الرئيس الامريكي دونالد ترامب منها عام 2018م أعاد هذه المفاوضات النووية في مربعها الاول ولكن هذه المرة بشروط ايرانية وهو ما يعبر عن قدرات ايران وما تمتلكه من أوراق قوية تجبر الأطراف الدولية بين امرين أحلاهما مر فإما أن تقوم ايران بالتخصيب دون اية التزامات دولية أو الموافقة على الشروط الايرانية في المفاوضات النووية.
قدمت إيران خلال العقود الأربعة الماضية نموذجا دوليا فتحولت من بلد تحكمه الإرادة الخارجية إلى بلد ينطلق سريعا نحو التطور والنمو بإرادة وطنية رغم المحطات الصعبة التي مرت على الثورة بدءا من الحرب العراقية الايرانية مرورا بوفاة زعيمها ومرجعها الروحي آية الله الخميني ووفاة عدد من أقطاب ثورتها في نفس الفترة من حقبة الثمانينات ولكن قوة النظام الجمهوري ومؤسساته الحصينة مثل مؤسسة تشخيص مصلحة النظام ولجنة صيانة الدستور وقدرات جيشها وحرسها الثوري وقوة الباسيج وسلاح الجو فضائي وأسلحتها الأخرى ووعي شعبها والتزامه بالمرجع الأعلى للثورة فوظفت أوراقها القوية في خدمة مصلحة إيران الدولة والجمهورية، مما جعل نظامها الجمهوري ثابتا لا يتزعزع، ثم آلت مرجعيتها وقيادتها بعد ذلك إلى الامام على الخامنئي لاستكمال انطلاقها نحو المنافسة العالمية فوصلت الى غزو الفضاء عبر برامجها الفضائية واستفادت من خبرة علماء الاتحاد السوفييتي السابق ثم شكلت قاعدة وطنية من العلماء الإيرانيين في مجالات الفضاء والطب والذرة ووصلت في مجالات التصنيع إلى مستويات متقدمة في مختلف مجالات التصنيع والتكنولوجيا النووية والصواريخ البالستية العابرة للقارات، وهكذا عندما تمتلك الدول ارادتها الوطنية وتسخر مواردها لخدمة شعبها فوصلت إيران إلى مرحلة الاكتفاء الذات يرغم تنوع العقوبات الامريكية والدولية عليها .
لقد تجاوزت إيران مرحلة حرجة مؤخرا عندما اندلعت الاحتجاجات الشعبية والتي يعتقد أن الأيادي الخارجية لعبت دورا في اثارتها، لكنايران تخطت كل الازمات بسلام مؤكدة على قوة الجمهورية وقوة النظام في مواجهة الأزمات، ومازالت القوى المعادية تعول على مثل تلك الاحتجاجات في اضعاف إيران من الداخل إلا أن ذلك أصبح أمرا مألوفا بل أكسب ايران من تجربة منحتها مناعة تامة، وهنا ايران تثبت قدرتها كدولة مهيمنة إقليميا تتحرك بقوة نحو المنافسة العالمية مسجلة حضورها في نادي الأقوياء .
الاستراتيجية الايرانية التي ترسخت في إيران الثورة من خلال نهجها ورؤيتها الداعمة لقوى المقاومة العربية في فلسطين ولبنان حيث تبنت القضية الفلسطينية وارتبطت بها عقائديا مما جعلها في خط العداء مع القوى الامبريالية بشكل مباشر، لذلك وجهت ايران رسائلها القوية في أكثر من مناسبة لقوى الاستكبار العالمي وكيان الاحتلال الصهيوني في وقت كانت تدرك فيه مستوى قدراتها التي حققت لها خاصيةالردع مع تلك القوى ومع الكيان الصهيوني أو “الغدة السرطانية” كما سماها آية الله الخميني، وهذا السلوك والنهج الايراني في دعم قوى المقاومة شكل لها قاعدة جماهيرية قوية وارتباطا فكريا وعقائديا مع فكر المقاومة، ومازال الدعم الإيراني لقوى المقاومة العربية يعتبر نهجا رئيسيا ضمن أولويات السياسة الإيرانية كما أن الأحداث اللاحقة زادت من نفوذ إيران في المنطقة وأصبحت على تماس مباشر مع حدود فلسطين المحتلة عبر العراق وسوريا ولبنان لا سيما بعدما أفرزته الازمة السورية من نتائج في صالح محور المقاومة .
لقد أفشلت ايران كل مخططات الاعداء لاشغالها ببعض الأزمات والحروب وإشاعة تصدير الثورة واللعب على الوتر الطائفي والمذهبي وشيطنة إيران وبث روح العداء مع الطرف العربي المجاور الذي استخدم كورقة في مواجهة إيران من خلال تسويق بعض جوانب العداء بين الطرفين وهي سياسة قديمة حديثة للقوى الاستعمارية “سياسة فرق تسد” ومع كل تلك المحاولات تخرج ايران بقوة وحصانة وتقدم في مختلف المجالات وامتلاكها قدرات في مستوى الردع الذي يتوفر لدى جمهورية إيران الإسلامية مما جعل تقارير الكيان الصهيوني تضع ذلك بالاعتبار وفي تقاريرها الاستراتيجية بشكل سنوي، وهكذا عندما تملك الدول قرارها الوطني وسيادتها وتعتمد على نفسها وتشكل قاعدة قوية تقوم على الندية والتكافؤ مع القوى العالمية، لذا يحق لإيران بعد (44) عاما من قيام ثورتها أن تفخر بما وصلت إليه من عزة وكرامة وتقدم وازدهار .
الدول العربية وجمهورية ايران الاسلامية عليهم تدارك أهمية تطوير العلاقات البينية بينهما في مختلف المجالات والتعويل على الحوار بين إيران والاشقاء العرب للقضاء على نقاط الخلاف بينهما مع ابعاد شبح المؤثرات الخارجية التي سوقتها السياسة الدولية، ولا شك أن الدول العربية وإيران لديهم عوامل مشتركة كثير جغرافيا وتاريخيا ودينيا وهذه المسلمات الأزلية تحتم على الطرفين الاستفادة من بعضهما أما القوى القادمة من وراء البحار والمحيطات فهي حالة مؤقتة ستزول آجلا أم عاجلا، وهنا لا بد من تغليب لغة العقل ومد جسور الحوار للقضاء على كل نقاط الخلاف وإن اقتضت الضرورة تقديم تنازلات بين الطرفين وابعاد الشعوب عن الشحن الاعلامي السلبي وتجنيب المنطقة تلك المناكفات التي لا مبرر لها لان الوضع القائم لا يخدم الا أعداء هذه الأمة، وبالتالي فإن تفعيل لغة الشراكة الاقتصادية والاستثمار و التبادل التجاري وتعزيز التعاون بين الطرفين يحقق الخير والتنمية لشعوب لمنطقة عموما .
لقد حققت ايران الثورة نقلة نوعية متقدمة في مختلف المجالات وهي تحتفي اليوم بعيد ثورتها الرابع والاربعين لتقدم رسالة للمنطقة والعالم أن الاعتماد على الذات يمثل العزة والكرامة ويجعل الاعداء قبل الاصدقاء ينظرون إليك باحترام شديد .
خميس بن عبيد القطيطي