هذا الحدث المسمَّى بـ”التقاعد” لكل إنسان كان في العمل المنظم، ويُعد التقاعد ظاهرة حديثة لم نعتد عليها في عُمان من قبل عام 1970، فإذا كنّا قد بدأنا العمل المنظم هذا، وذلك مع بداية سنيّ النهضة الحديثة في السلطنة، فإنَّه قبل هذا التاريخ ليس هناك من تنظيم للوظيفة العامة، فإذا افترضنا أن الوظيفة الرسمية قد نشأت عام 1970، فإن أول متقاعد سيكون بعد ثلاثين عامًا؛ أي اعتبارًا من مطلع عام 2000، وقبل هذا التاريخ لم يكن هناك من أكمل ثلاثين عامًا من العمل الرسمي حتى يشمله التقاعد.
لكن فكرة التقاعد المبكّر بدأت تلوح في الأفق مع تسعينيات القرن الماضي، فابتكرت هذه الفكرة لغرضين؛ أولهما: التقاعد الحسن للتقليل من تكدس عدد الموظفين الحكوميين، ولكن استغلها بعض النخبة من المهندسين والأطباء، فتقاعدوا رغبة منهم، وفتحوا لهم مؤسساتهم الخاصة التي استمروا فيها، وعملوا على تمنيتها وتطورها، فخسرتهم الوظيفة الحكومية، وربحهم الوطن وهم أنفسهم بذلك التقاعد المبكر. أما الغرض الثاني؛ فكان بهدف التخلص من بعض الموظفين.
لكن البعض من أولئك المحالين للتقاعد، قرروا التظلم من قرارات التقاعد القهرية، فجاء الحكم لصالحهم، وأُعيدوا إلى الوظيفة من جديد، وبعد انتصارهم لأنفسهم، استقال بعضهم برغبتهم بعد أن استردوا اعتبارهم المعنوي.
وظل التقاعد حالة اجتماعية منفِّرة، وذلك بعدما اكتشف المجتمع وضعهم (قليل الدسم) فإن هذا المتقاعد سقط معنويًا إلى دون مستوى الصفر، أكان ذلك بين زملاء العمل، الذين انقلبوا عن احترام أولئك الزملاء بمقدار 180 درجة، وكأن الدائرة لن تدور عليهم في قادم الأيام، وكذلك المجتمع الذي تحول في بعضه إلى مجتمع مادي مصلحي، فأخذ يُقيِّم الإنسان ليس بقيمته الإنسانية، ولكن بقدر ما يستفاد منه ماديًا ومصلحيًا وسلطويًا.
وفي نفس الوقت؛ فإن هذا المتقاعد الذي كان يملك مستوى معيشيًا يُغنيه عن الناس، ويحفظ له كرامته مع نفسه وأمام أسرته، أمسى الذي كان يملك سيارة جيدة أيام الوظيفة، يملك في زمن التقاعد سيارة بنصف سيارة الأمس، أو أنه لا يملك سيارة بالمطلق ويستخدم سيارات الأجرة في تنقلاته، وصار معاش التقاعد ضئيلًا جدًا ولا يكفي المصاريف اليومية، وأخذت الدنيا تضيق به وكأنه لم يفعل خيرًا طول حياته الماضية، والأمر الذي يزيده قهرًا وانهزامًا، أنه يرى الذين تقاعدوا بعده بفترة قليلة، يحصلون على معاشات تساوي ضعف أو ضعفيّ معاشه، وهو وإياهم في درجة وظيفية متساوية، وظروف عمله كانت الأكثر قسوة ومشقة وخطورة. أما من خلفه من المتقاعدين الجدد، فإنهم لم يواجهوا عُشر ما واجهه هو من متاعب، فأبسط معايير العدالة أن يتساوى معهم في قيمة معاش التقاعد، إن لم يكون هو الأعلى منهم، ولكن الذي حدث هو العكس.
وأن الذي يزيد الطين بله، أنهما أي (السلف والخلف) يعيشان في زمن متساوٍ من حجم غلاء المعيشي، وبالنسبة للسلف فإن هناك زيادة في متطلبات الحياة الإجتماعية والصحية عن حال خلفه، فهذا التساوي لم يرافقه كذلك التساوي في الدخل.
وعندما يمد هذا المتقاعد عينيه بالنظر إلى حال المتقاعدين في البلاد الأخرى، يصاب بالحسرة والندم على سوء الحظ الذي يعيشه، ففي تلك البلدان يجد المتقاعد بطاقة خاصة تمنحه خصم في جميع الخدمات العامة، ويلاقي الاحترام والتمييز اللازمين، وبعض الدول تطلق على المتقاعد صفة المواطن “الأول” ويتجنبوا نعته بصفة “مت.. قاعد” كما هو حال فصاحة العرب في هذا الحال.
في تلك البلدان، يجد المتقاعد من يرحب به في وظائف استشارية، وتتسابق عليه الشركات لما له من خبرة واسعة، وتجارب حياتية طويلة، وحتى في الحكومة يجد عقودًا استشارية للاستفادة من خبراته، على عكس وضع المتقاعدين في بلادنا، فإنه يمنع التعامل معه حتى لو بعقود استشارية، فأصبح كالموبوء بالجرب لا أحد يقربه أو يحتاج إلى خدماته، فهناك اليوم ما يقارب 80 في المئة من اليد العاملة معطلة عن العمل، وذلك بحجة التقاعد، وهناك من يعتب على المتقاعدين لبحثهم عن عمل، فينعتهم بالمزاحمين على الوظائف، ولم يفرقوا بين الأعمال الاستشارية والأعمال التأسيسية المبتدئة.
والعالم المتقدم ينظر إلى المتقاعد على أنه يمثل تاريخ الأمة، وذكراها الحية، فمن يتنكر للمتقاعدين كمن يتنكر لتاريخه الحي، وذاكرته المتقدة بالحيوية، والشاهدة على عصر النهضة، وربما يصبح لهذا الجفاء بين الموظف والمتقاعد أمر سلبي، وسوف يستحث ضعاف النفوس لعمل شيء ما خاص بذاتهم، وقد لا تكون قويمة سليمة، وذلك لضمان شيء ما لمستقبلهم وما يزال الأمر بأيديهم، وذلك بعدما تأكد لهم أن التقاعد سوف يطمر مستقبلهم بالتراب.
أرجو أن يكون خبر إحالة مشروع قانون الحماية الاجتماعية من مجلس الوزراء إلى مجلس عُمان، بشرى سارة للمتقاعدين، وأن يكون فال خير لهم، وذلك بإنصاف المتقاعدين القدامى خاصة بتوحيد معاشاتهم مع الجدد، وحفظ كرامتهم.
حمد بن سالم العلوي