يأتي طرحنا لهذا المقترح انطلاقا من موجّهات رؤية عُمان 2040 في محور تطوير المحافظات والمدن المستدامة، والتوجُّهات الوطنية المتعلقة بحوكمة الجهاز الإداري للدولة، وما نتج عن ذلك من نظام المحافظات الصادر بالمرسوم السُّلطاني (37/2022)، وقانون المجالس البلدية بالمرسوم السُّلطاني رقم (38/2022) بشأن تعديل بعض أحكام قانون المجالس البلدية الصادر بالمرسوم السُّلطاني (126/2020)، بشأن تأطير مبادرات جادَّة تضع مفهوم اللامركزية والإدارة المحلية إطارا عمليا واستراتيجية حياة يعيشها المواطن في المحافظات؛ وفي ظل وجود مسوِّغات عدَّة عنوانها التعقيد في الإجراءات والتكرارية والبطء في الممارسة الاستثمارية، باتت تضع الحاجة إلى وجود «مجمع متكامل لكل الخدمات الشاملة الحكومية بالمحافظات»، محطَّة متجدِّدة تتفاعل مع الجهود الوطنية القائمة في فترات سابقة حول قاعات الخدمة الموحدة، ولكن بصورة أكثر شمولية واتساعا واحترافية بحيث تتجاوز البُعد المؤسسي الواحد، لتمثل جميع المؤسسات، وتركز على الخدمات الاستثمارية بشكل أكبر أو تلك التي تأخذ منحى التراكمية بين أكثر من مؤسسة. يأتي مقترحنا هذا تأكيدا للثوابت الاقتصادية الوطنية بشأن تسهيل وتطوير بيئة الأعمال لجذب المستثمرين وروَّاد الأعمال، وتعزيز الدور الاقتصادي الريادي والاستثماري للمواطن، وما يؤسسه ذلك من موجّهات عملية على الأرض تظهر في جملة الثوابت والمحفزات والمبادرات الوطنية المعززة لتبسيط الإجراءات والحدِّ من العمليات الإدارية المتكررة، وضمان حصول المواطن والمقيم أو المستثمر على الخدمة الحكومية بكل يُسر وسهولة ووفق إجراءات تحمل في ذاتها الابتكارية والتجديد، والاحترافية وتوظيف التقنية، والدقة والمعيارية وروح الإنسانية، والتوجُّهات الوطنية بشأن إيجاد منصَّة استثمارية وطنية متكاملة «استثمر في سلطنة عُمان» لتشكِّل بمثابة منصَّة إلكترونية ومحطَّة مكانية واحدة يمكن من خلالها عرض الفرص الاستثمارية في سلطنة عُمان للمستثمرين من داخل سلطنة عُمان وخارجها، تحوي كل مؤسسات الدولة ذات الصِّلة بشأن الفرص الاستثمارية المتاحة والتسويق لها للمستثمر الداخلي والخارجي، الأمر الذي يتيح الفرصة لتوفير بيئة خصبة لنمو الأعمال والاستثمار وجذب المستثمرين وروَّاد الأعمال.
بالإضافة إلى أنه يعالج مشكلة تعقد الإجراءات والتطويل الحاصل فيها، والصورة الذهنية السلبية التي باتت ترافق المستثمر في سلطنة عُمان؛ إذ بات تشتُّت هذه المهام وتبعثرها في أكثر من مؤسسة، يولد قناعات مغايرة ويسقط أحكاما سلبية على الجهود الوطنية الساعية إلى تبسيط الإجراءات، سواء على المستثمر الأجنبي الذي قد يتَّجه في ظل هذه الإجراءات الروتينية غير المبررة أحيانا إلى تغيير وجهته الاستثمارية إلى دول الجوار أو في بيئات أعمال أكثر سلاسة ومرونة واحتواء لرغبات المستمرين وتحفيزا لهم، وعلى مستوى المواطن والمقيم أيضا باتت التعقيدات في إنجاز المعاملات الإسكانية والبلدية والعمالية والتجارية والصناعية والسياحية والزراعية، وغيرها كثير في ظل واقعها الحالي تعكس حالة من التأخير في عمليات الإنجاز والبطء في الحصول على الموافقات، وإجراءات لم تستفد بشكل فعلي من التقنيات الحديثة، فقد تطلب حضور صاحب الطلب لأكثر من مرة لمجرد توفير مستند ما، ناهيك عن ازدواجية العمل في التعاطي مع المستندات والملفات المطلوبة ومستوى الثقة الذي ما زال يواجه تحدِّي عدم الاستجابة المباشرة بين المؤسسات ورغبة بعضها في فرض سياسة الأمر الواقع، ومسألة غياب المسؤول الحكومي أو عدم وجوده أو ارتباطه بإجازة أو عمل إلى غير ذلك من الأعذار التي بات يواجهها المواطن والمقيم على حد سواء لتظهر هذه الصورة بشكلها غير الحضاري في المحافظات. ومع الإشارة إلى الجهود والمبادرات التي قامت بها بعض مؤسسات الدولة في إيجاد قاعة واحدة يتم خلالها تقديم خدمات المؤسسة الواحدة، أو التطبيقات الإلكترونية التي تستهدف المزيد من السرعة في إنجاز المعاملات، إلا أنها ما زالت لا تحقق التوقعات المطلوبة من وجود هذه الخدمات في مكان واحد ـ مع الفارق بين كفاءة هذه المؤسسات في الخدمة المقدمة ـ خصوصا في ظل التوسع الحاصل في مباني المؤسسات الحكومية وانتقالها إلى مناطق جديدة، الأمر الذي أوجد الحاجة إلى التنقل بين أكثر من موقع في المحافظة الواحدة، على أن التحدِّيات الناتجة عن هذا التبعثر المكاني كانت له ـ وللأسف الشديد ـ انعكاساته على مسألة جدية التفاعل مع الخدمة المقدمة التي تشترك فيها أكثر من جهة حكومية، سواء كان من حيث وقت وصولها أو تأخر متابعتها أو اتخاذ إجراءات واضحة بشأنها، وغيرها مما بات المواطن يعانيه اليوم في إنجاز معاملاته، ويجد فيه من المشقة والحرج والتأخير ما يتجانب مع التوجُّه الوطني في تحسين وتطوير بيئات الأعمال وتعزيز مسار الاستدامة الاقتصادية وجذب الاستثمار أو كذلك ما لا يعبِّر عن مسار اللامركزية وفتح آفاق أوسع للمرونة والتكاملية وفق نظام المحافظات، الذي عليه أن يجسِّد في واقعه هذه المساحة من التناغم والتكامل والتعايش والتفاعل بين المؤسسات على المستوى الجغرافي الواحد، إذ يعبِّر وجود هذه الخدمات في مكان واحد عن أن رؤية العمل تتجه فعلا إلى اللامركزية والتبسيط في الإجراءات والتسهيل على المواطن، وأن مخرجات أو نواتج اللامركزية بدأت تؤتي أكلها وتظهر في الواقع من خلال وجود هذه المجمَّعات الخدمية في مكان واحد. على أن هذا التوجُّه نحو إيجاد مجمَّع الخدمات المتكاملة الشاملة بين مؤسسات الخدمات الحكومية في المحافظات ينبغي أيضا أن لا يقتصر على مركز المحافظات فحسب، بل يتم نشر هذه المجمَّعات المتكاملة على مستوى ولايات المحافظة، بحيث يضمُّ المجمَّع المتكامل للخدمات مختلف المؤسسات الخدمية التي تقدم خدماتها للمواطنين وتحت مظلة واحدة في التعاملات المشتركة الإسكانية والبلدية والتجارية والصناعية والاقتصادية والاستثمارية والخدمات العامة والتراخيص وغيرها كثير مما يحتاج المستثمر لتخليصه بين أكثر من مؤسسة أو لا يمكن الحصول عليه من مؤسسة واحدة، وبالتالي أن تخصص مجمَّعات الخدمات المتكاملة للموضوعات والمعاملات التي تتطلب أكثر من جهة حكومية مع الإبقاء على دوائر الخدمة بالمؤسسات ذات الصِّلة بالمؤسسة على حالها، فإذا كان تخليص هذه المعاملة والحصول على هذا التصريح يأتي من جهة واحدة فتبقى في المؤسسة، أما إذا كان الحصول على هذه الخدمة يتطلب أكثر من مؤسسة فإن كل المعنيين بتوفير هذه الخدمة يكون لهم موقع في مجمَّع الخدمات المتكاملة مثلا: التصريح لمشروع تجاري أو صناعي أو خدمي أو زراعي بين أكثر من مؤسسة، أو كذلك طلب الموافقة على مشروع إسكاني أو كذلك ما يتعلق بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة…إلخ. وعَودًا على بدء، فقد يتساءل البعض عن أن هذا الطرح قد لا يكون بذات الأهمية في ظل ما يوجد لدى المؤسسات الحكومية من قاعات للخدمة الواحدة (الإسكان، البلديات، والعمل…إلخ)، أو أن توجّه الحكومة نحو الإدارة الإلكترونية وتفعيل التقنيات والمنصَّات الرقمية، وتطبيقات خاصة للمؤسسات في الأجهزة الذكية، وللرد على ذلك نقول: بأن مجمَّع الخدمات المتكامل لا يلغي دور قاعات الخدمة الموحدة بالمؤسسات، بينما يختص وجود هذا المجمَّع في الخدمات المشتركة بين المؤسسات بحيث يكون هذا المجمَّع يضم كل الدوائر الاستثمارية ذات الصِّلة، الأمر الذي سيقلل من حالة البط والتكرارية والتطويل في الإجراءات الحاصل والتردد على المؤسسات، وحالة الامتعاض والسلبية التي باتت ترافق المواطن والمقيم في إنجاز المعاملات ذات التعددية المشتركة بين المؤسسات، فيكون مجمَّع الخدمات محطَّة جديدة قوامها العمل المشترك ضمن فريق وطني واحد، وهو يتناغم من حيث المبدأ مع الجهود الوطنية في إنشاء منصَّة وطنية متكاملة «استثمر في سلطنة عُمان»، ويصبح مقترحنا بوجود هذه المجمَّعات الخدمية المتكاملة بالمحافظات تجسيدا عمليا لنواتج هذه المنصَّة، وتأكيدا على جدية التوجُّه نحو تبسيط الإجراءات الحكومية، والآمال الكبيرة التي يفتحها لتطوير المحافظات من خلال التوسع في الخيارات المتاحة للمواطن والمقيم لضمان حصوله على الترخيص أو الموافقات في مكان واحد وبدون أي تأخير؛ واستكمالا لردنا حول التساؤل المتوقع طرحه من قبل القارئ، فلو أن المسألة المرتبطة بوجود التقنية والخدمات الإلكترونية في المؤسسات كافية في تحقيق تحوُّل استراتيجي في منظومة العمل الوطني، وأدَّت دورها بشكل متكامل وقادرة على تحقيق أولويات رؤية عُمان بصورة أكثر مهنية واحترافية والتسريع في وتيرة الاستثمار والتسويق لسلطنة عُمان، لما جاءت التوجُّهات الوطنية نحو وجود هذه المنصَّة الاستثمارية والتي تتخذ من مبنى هيئة الأرصاد الجوية بمسقط مقرا لها. وأخيرا، نقول بأن الوقت لا ينتظر، وما يحصل ـ وللأسف الشديد ـ في بعض المؤسسات من تلكؤ وبطء وعدم انسيابية وتدني مستوى المرونة والجودة والتفاعل، لا يمكن أن يحقق التوجُّهات الوطنية بشأن تعزيز الخارطة الاستثمارية لسلطنة عُمان وتطوير بيئات الأعمال لتعزيز الاستثمار والاستدامة الاقتصادية ورفع التوقعات الوطنية بشأن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وتوجيه جلالة السُّلطان المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ الجهاز الإداري للدولة باتخاذ الإجراءات لتهيئة البيئة المناسبة التي تساعد المواطنين على الالتحاق بكافة الأعمال، وتوعية الشباب بفلسفة العمل وثقافته السائدة عالميا، وتشجيعه على خوض مجالات الأعمال الحرة؛ وبالتالي ما تتطلبه هذه التوجيهات السامية، والتوجُّهات الوطنية المنفذة لها من التكامل في الأدوار وتقديم خدمات وطنية شاملة وتبنِّي أفضل أساليب العمل التي تتسم بالتنوع في الخيارات والبدائل والسرعة والمرونة في الإجراءات، وتقليل فائض العمليات المتكررة، والهدر الناتج من التطويل في إجراءات تخليص المعاملات، وبالتالي أن يتجه الاستثمار سواء كان ذلك الذي يتجاوز مليون ريال عُماني أو الاستثمار الذي يقل عن ذلك، بحيث يحصل الجميع على الخدمة بسهولة ويُسر ووفق إجراءات مبسطة وتنافسية ومحفزات داعمة، فإن قدرتنا على رسم صورة مشرقة لهذا المسار، وسعي المحافظات نحو إيجاد هذه المنصَّة الاستثمارية والترويجية والأدائية والخدمية سوف يصنع الفارق وتتجه بالشباب والمستثمرين بالمحافظات إلى طرق أبواب الاستثمار وفتح آفاق أوسع له في سلوك المواطن الباحث عن عمل والمسرح، بل حتى طلبة التعليم في ظل الحاجة إلى تغيير سياسات الدعم المقدمة من بنك التنمية العُماني واتجاهها إلى المزيد من النضج والتفاعل والإنتاجية والكفاءة الأدائية، وعندما تتهيأ فرص الاستثمار، وتتجاوز الترهلات الحاصلة، وتنمو عقيدة التنوع والتبسيط في سيناريوها العمل، والتوسع في الخيارات، والابتكارية في إدارة المعطيات، والوقوف على ما يرصده المجلس البلدي من تحدِّيات ومشكلات في قدرة المؤسسات على التعامل مع حركة الاستثمار والتطوير؛ عندها تصبح الفرص مواتية لصناعة الفارق، وتتحول المحافظات إلى حركة اقتصادية استثمارية غير مسبوقة.
د.رجب بن علي العويسي
