شكّل قرار الحكومة العمانية السماح للطائرات الإسرائيلية بالمرور فوق الأجواء العمانية، منعطفًا خطيرًا في طريق التطبيع مع الكيان الصهيوني ولا عجب أن يحتفي مسؤلو الكيان بهذه الخطوة أيّما احتفاء، حيث جاء الإعلان من قبلهم وليس من قبلنا؛ فوصف إيلي كوهين وزير الخارجية الإسرائيلي القرار بأنه “تاريخي”، ووجّه الشكر إلى “أصدقائنا الأمريكيين الذين رافقونا طوال العملية برمتها، وعلى مساعدتهم الكبيرة في إنجاح هذه الخطوة”، وشكر أيضًا رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وهيئة الأمن القومي، والمدير العامل وزارة الخارجية، وموظفي الوزارة “المتفانين الذين عملوا من أجل مواطني إسرائيل والاقتصاد الإسرائيلي”.
يحقّ للإسرائيليين أن يحتفوا بالقرار – كما فعلوا – ويوظفوه إعلاميًا، كونه انتصارا لهم، وهو ما يفعلونه دائمًا، عندما ينجحون في اختراق أيّدولة عربية، ويُحسبُ لهم أنّ في غمرة فرحتهم لا يهتمون بالطرف الآخر، بل يحرجونه، وهكذا فعلوا مع كلّ المُطبعين، ابتداءً من الرئيسالسادات وليس انتهاء بالقرار العُماني، فهو جاء كما قال وزير خارجية الكيان “من أجل مواطني إسرائيل والاقتصاد الإسرائيلي”، وهي الحقيقة الناصعة، فلا مستفيد إلا الكيان الإسرائيلي. والغريب أنّ إحراج إسرائيل لشركائها في التطبيع والمفاوضات، لا يقتصر على البيانات فقط، بل يتعدى ذلك إلى الأفعال، فدائمًا ما يترافق مع أيّ خطوة تطبيعية عملياتُ إجرام وقتل للفلسطينيين، وهذا ما حصل معمجزرة نابلس التي راح ضحيتها 11 شهيدًا فلسطينيًا وعشرات الجرحى، وكأنّ الرسالة أنّ هذه المجارز تحدث بموافقة عربية.
وقد بلغ الاحتفاء الصهيوني بالقرار العماني مداه، عندما غرّد إيدي كوهين المكلف بالتعامل مع وسائل الإعلام العربية في 22 فبراير2023م، أنه “لا سلام ولا تطبيع مع سلطنة عُمان، قبل أن يعتذر المفتي على تصريحاته المعادية لليهود وإسرائيل. بعد الاعتذار كلّ حادث لهحديث”، وهو يوحي بذلك لمتابعيه أنّ عُمان تسعى ومتلهفة لإقامة سلام والتطبيع مع الكيان، ولكن كوهين هو أدرى من غيره، أنّ الحكومة العمانية صمدت طويلا أمام كلّ الضغوطات التي أتتها من الخارج، وحاولت أن تتملص أكثر من مرة، ويعلم تمامًا أنّ بيان هيئة الطيران المدني العمانية تأخر غير مرة، ويعلم أيضا كواليس ما جرى، عندما رفضت عُمان في اللحظات الأخيرة إصدار ذلك البيان، فسارع وزير الخارجية الإسرائيلي إلى إصدار بيانه ذلك فرضًا للأمر الواقع، ثم جاء الإعلان العماني الباهت، تحصيل حاصل فقط، ولم يشر إلى الطائرات الإسرائيلية، وكأنّ العُمانيين ما زالوا يعيشون بعقلية الستينيات أو السبعينيات، وكأنّ العالم لم يصبح فضاء مفتوحًا.
ومن الخطأ أن يشير البيان إلى أنّ الخطوة جاءت “تأكيدًا لمساعي السلطنة في وضع البنود الأساسية لمعاهدة شيكاغو 1944 محل تطبيق، أمام جميع الدول المتعاقدة مع منظمة الطيران المدني الدولي “الإيكاو” والبالغ عددها 193 دولة، وإنفاذا للمتطلبات الدولية والمحلية بعدم التمييز بين الطائرات المدنية في المعاملة”؛ فهذه العبارة تبريرية ليس لها معنى، ولا أعتقد أنّ من العيب ذكر الضغوطات التي مورست على عُمان، ففي النهاية عُمان هي ضحية أخطاء غيرها، فلو أنّ السعودية لم تسمح بمرور الطائرات الإسرائيلية فوق أجوائها، لما كان ذلك الضغط على عُمان، باعتبار أنّ القضية أصلا منتهية.
لم تكن هيئة الطيران المدني هي الوحيدة التي تبرّر القرار؛ فهناك كثيرون ممن كتبوا أو غرّدوا – حالهم كحال الظمآن الذي يحسب السرابماء – بأنّ السماح للطائرات الإسرائيلية بالعبور عبر الأجواء العمانية سيوفر دخلا إضافيًا للدولة، وسيمنح سمعة طيبة لعُمان، وهو قول في اعتقادي أنه أقرب إلى أن يكون مجرد نكتة، وكأنّ دخل مرور هذه الطائرات سيدفع الدين العام للدولة، وسيحلّ جميع مشاكل المواطنين، وستختفي البطالة، وستُرفع الضرائب عن المواطنين، وزاد الآخرون بأن قالوا إنّ مرور الطائرات الإسرائيلية عبر الأجواء العُمانية سيؤدي إلى الترويج لعُمان ومقوماتها السياحية والاقتصادية والثقافية، وهي النغمة التي ترددت منذ زيارة الرئيس السادات للقدس، وترددت في الأردن والمغرب والسودان، في وقت نرى أنّ الأوضاع الاقتصادية لتلك الدول صعبة وعلى شفا الإعلان عن إفلاسها، كما أنّ الوضع الداخلي مهزوز، ممّا أدى إلى زيادة القبضة الأمنية في تلك الدول، ولكن إلى متى؟ ولنا أن نتساءل، إذا كنا على مدى خمسين عامًا فشلنا في الترويج لعُمان ومقوماتها السياحية والاقتصادية والثقافية، فهل سننجح الآن بمجرد مرور الطائرات الإسرائيلية فوق أجوائنا؟!
حقيقة كان القرار العُماني صدمة للكثيرين – وأنا في مقدمتهم – فالغالبية العظمى من العمانيين أيّدت الموقف العماني الرافض لأيّ تقارب مع الكيان الإسرائيلي، ووسائلُ التواصل الاجتماعي خير دليل على ذلك، وبالتأكيد – كما أسلفتُ – فإنّ موقفًا شعبيًا قويًا مثل هذا هو موقفٌداعمٌ للحكومة في أيّ خطوة تخطوها؛ لذا فإنّ على الحكومة أن تعي خطواتها جيدًا ولا يجب عليها أن تسحب من رصيدها تجاه الشعب؛ فأيُّ تعاملٍ مع إسرائيل لن يتسامح معه التاريخ؛ وأنا شخصيًا أتعاطفُ مع موقف الحكومة في صمودها ضد الضغوطات، وكمواطن لا أتفق معأيّ قرار بتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وكررتُ مرارًا بأنّ موضوع فتح الأجواء العمانية هو مسألة وقت فقط بسبب تلك الضغوطات، وهو ما تحقق فعلا؛ ولكن الآن نرفع أيادينا إلى الله سبحانه وتعالى، ونسأله ألا تتبع هذه الخطوةَ خطواتٌ أخرى، وأرى أنّ خير من يمثلني ويمثل رأيي هو سماحة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام سلطنة عمان الذي عبّر بما يجيش في نفسي عندما غرد قائلا “لقد فوجئنا مفاجأة لم تخطر منا على البال بقرار فتح المجال الجوي بما يمكن طيران الكيان الصهيوني من استعماله، ولم نكن نحسب لذلك حسابًا قط، بل كنا نرجو أن يستمر الموقف الصامد الرافض لأيّ علاقة بذلك الكيان من سلطنتنا الأبية.
فكم كنا نعتز بذلك، ونخشى أن تلي هذه الخطوة خطوات أخرى، فإنّ من تقهقر خطوة لم يلبث أن يتقهقر خطوات؛ لذلك نرجو كلّ الرجاء مراجعة الحساب في هذا وهو مطلب وطني يتمسك بهجميع الشعب العماني الأبي”.
وقبل الختام أود أن أعود إلى نقطة أنّ التاريخ لا يرحم من يتعامل مع الصهاينة، فأشير إلى أنه في أكتوبر عام 2018م، عندما استقبل السلطان الراحل طيب الله ثراه، بنيامين نتانياهو رئيس وزراء الكيان، قلتُ لأحد الأصدقاء – وهو الذي ذكّرني به أكثر من مرة – “إنّ صورةالسلطان قابوس هذه مع نتانياهو ستلغي كلّ صوره طوال خمسين عامًا، والكلّ سيركز على هذه الصورة في كلّ مناسبة”، وللأسف هذا الذي حدث، رغم ثقتي التامة أنّ عُمان لم ولن تعمل ضد القضية الفلسطينية، ولكن يبقى أنّ أيّ نوع من أنواع التطبيع هو عملٌ ضد الفلسطينيين. عمومًا كسب الإسرائيليون الرهان، وعلينا أن نشرب “ليمونادة بالنعناع”، ولا ينبغي التبرير للقرار.
بقلم: زاهر بن حارث المحروقي
السبت 25 فبراير 2023م
