الأديب أحمد الفلاحي المهموم بالثقافة العُمانية على مدى أكثر من نصف قرن ونشرِها في كلّ مكان، واصل تلك الجهود بإصداره سفره الضخم «قصائد عمانية – مختارات» من مجلدين عن دار الفرقد للنشر والتوزيع، في أكثر من ألف صفحة. يضمّ الكتاب مختارات من قصائد الشعر كتبها شعراء عمانيون منذ أقدم الأزمنة وحتى الآن، وجاءت معظمها من الدفاتر التي يجمع فيها الناس ذلك الإنتاج حسب العادات الشائعة والمتوارثة في عُمان منذ عهود بعيدة، ممّا سمح ببقاء عدد وافر منها حتى اليوم، لتتيح للدارسين التعرف من خلالها على الشعر العماني المجهول، وكشف ملامحه وسبر مضامينه وإبراز ما استتر منه. وأشار الفلاحي إلى أنّ اختيار هذه القصائد كنماذج قدّمها إلى قراء الشعر في الوطن العربي، ليطلوا عبرها على ملامح من شعر عُمان الذي لم يصل أكثره لمعظمهم. واجتهد في انتقاء ما راق له ووافق ذوقه منها، من عصور مختلفة؛ قليلٌ منها يعود لما قبل الإسلام والعصر الإسلامي الأول، والأكثرُ للعصور التي تلت وخاصةً عصرنا الحاضر، وهي قصائد احتوت على مضامين متنوعة؛ في الحروب والرثاء والارتحال وفي الحكمة والوصف والغزل ونحو ذلك من أغراض الشعر، وبذل جهدًا في تقويم الكلمات والجُمل التي أصابها التلف من القدم والتمزق والمحو وأغلاط النساخ بحسب ما أمكنه. وجاءت فصول الكتاب على النحو التالي: التوبات، الرحلات، المراثي، الزنجباريات، الوقائع، البطينيات، زيارة الباروني لعُمان، الغزليات، متفرقات، وأخيرًا أحمد الفلاحي، وضمّ هذا الفصل بعض التحايا والقصائد التي قيلت فيه من الشعراء العُمانيين وغيرهم، وكذلك رده عليهم.
يَعتبرُ الفلاحي أنّ أبا الطيب المتنبي هو شاعر العرب الأول، وفي العصر الحديث هو معجبٌ بنزار قباني؛ ويرى أنّ الشيخ هلال بن حمود السيابي هو شاعر عُمان الأول في العصر الحالي، وكذلك الراحل الشيخ عبد الله بن علي الخليلي، لكن عشقه الكبير للشعر لم يمنعه من أن ينوّع في قراءاته المختلفة؛ فهو يقرأ في السياسة والأدب، ويقرأ القصص والروايات والمذكرات والسير، ولا يتعصّب لصنف ضد آخر، كما أنه كثيرًا ما يردّد أنه رجلٌ تقليدي، لذا فإنه يشير إلى أنّ الكتاب الحالي لا يشتمل على الشعر العماني الحديث أو المكتوب بنظام التفعيلة، المعروف باسم «الشعر الحر»، ولا على ما عُرف بقصيدة «النثر» التي ظهرت في وقت متأخر، وإنما اقتصر فقط على القصيدة التقليدية الموزونة والمقفاة، ولم يكن له في الاختيار من معيار محدد سوى الذائقة الذاتية، ولم تتمكن المجموعة من استيعاب أكثر ممّا دخل فيها، نظرًا للكم الوافر من الشعر العماني الذي يصعب الإحاطة بكلّ جوانبه الواسعة؛ ولهذا غابت نماذج عظيمة بالغة الروعة من شبابنا المبدعين من الأجيال الحالية الموهوبة، ومن الجيل الذي سبقهم أو من جاء بعدهم ممّن أبدع في القصيدة العمودية. يقول الفلاحي: «منذ أن كنتُ صغيرًا، كنتُ أرى أمام عيني عددًا من الدفاتر الشعرية القديمة التي أجهدها الدهر، وتأثرت أوراق بعضها من جراء القِدم فتمزقت وانطمست أسطرها، وأفسدت «الرمة» أجزاء واسعة منها، كما أصاب بلل الأمطار أجزاء أخرى. وحينما كبرت وجدتُ التمزق والضياع قد زاد وقضى على كثير من أوراق تلك الدفاتر، وكانت الأجيال تتعاقب على تلك الدفاتر، فيضيف كلّ جيل إضافة جديدة ممّا يراه مناسبًا له، لذلك اختلفت الخطوط وألوان الأحبار، ولم تكن هناك قاعدة محددة للاختيار من حيث نوع الشعر ومضمونه أو من حيث قدمه وحداثته، بل الحالة أقرب إلى العشوائية سيما في الدفاتر الأقدم، فهناك قصائد لعنترة وزهير والخنساء من العصور الموغلة في القدم، تُجاورُها قصائد عُمانية جديدة تنتمي إلى زمن الناقل، وقصائد لابن دريد والمتنبي والبحتري والمعري ومن تلاهم ممن جاء بعدهم، وقصائد من شعراء عُمان القدماء كالستالي والنبهاني والكيذاوي، ومعها قصائد من العراق والشام ومصر، وهكذا اختلطت القصائد مع بعضها. وفي الدفاتر الأحدث ظهرت قصائد ابن شيخان وأبو مسلم والشيخ سعيد بن خلفان الخليلي والشيخ السالمي، تلك الدفاتر المتنوعة القديمة والأحدث التي ضمت خليط الشعر العربي في صنوفه الكثيرة وفي عصوره المتعاقبة ومن أقطاره العديدة التي جاءت عُمان في الصدارة منها من حيث الكثرة والعدد، هذه الدفاتر هي التي فتحت عيني في طفولتي وبداية شبابي على الشعر العربي، وغرست حبه في ذاتي، وهي التي حفّزتني على حفظ كثير من أبياته وقصائده دون فهم لمعانيها وحتى دون النطق الصحيح لكلماتها، ولا شك أنّ كثرة تقليبي لتلك الدفاتر والتعامل المتكرر معها قد أسهم بصورة غير قليلة في تمزق المزيد من أوراقها وفي تشويهها بالحبر البدائي الذي كنا نستخدمه، وبالخربشة في هوامشها وبين سطورها، ممّا أدى لفقدان الكثير منها فقدانًا نهائيًا للأسف». وهذا يظهر مدى الجهد الذي قام به الفلاحي في تجميع هذه القصائد في سفر واحد، وهو يساهم في التعريف بالشعر العُماني وتقديمه للقارئ العربي في كلّ مكان، لأنّ الشعر العُماني ما زال أكثره مجهولًا لمحبّي الشعر من العرب، بل وحتى لأهل عُمان. ورغم أنّ الفلاحي يراها «محاولة جد متواضعة» إلا أنها تشكّل حافزًا للشباب الباحثين والأكاديميين، لتسليط الضوء على ما خلّفه أسلافنا من شعر.
عن القصائد المختارة في الكتب يقول الفلاحي «إنّ ما فيه هو ما في الشعر العربي من جودة عالية ترتفع في القمم الرفيعة، وأخرى شديدة التواضع ليس فيها من الشعر سوى النظم والإيقاع، وهناك المتوسط بين القمة والقاع وهذه القاعدة في أركانها الثلاثة هي التي انبنى عليها مأثور الشعر في اللغة العربية عبر عصورها المتوالية؛ وشعرُ عُمان فرعٌ من تلك الدوحة الكبرى»، لذا نجده يشير في موقع آخر إلى أنه في حالات بذاتها غلب المضمون على الفن ابتغاءً للفكرة وما تقدّمه، كما في الأراجيز والرحلات وربما التخميس والإخوانيات، والقصدُ الأساسي من هذه النماذج وضع مشهد الشعر العماني أمام القارئين من متذوقي الشعر.
في الباب الأخير من الكتاب الذي يحمل اسمه، ينشر الفلاحي عشر قصائد قالها في مناسبات مختلفة، منها قصائد تتعلق بالوطن العربي كنصر أكتوبر، بغداد الأبية، وصمود بغداد، وأخيرًا قصيدة «نفثة مصدور» التي نظّمها في 9 إبريل 2003 مع احتلال أمريكا للعراق، تلك الحادثة التي فجّرت قلبه الجريح، بعد أن تابع النقل المباشر للاحتلال عبرة قناة الجزيرة، حيث ردّد غير مرة أنّ المذيع الراحل ماهر عبد الله، قال كلَّ ما يمكن أن يقال. وتُظهر قصائده تلك انتماءه الوطني والعروبي، إيمانًا منه بأنّ الوطن العربي تكّون منذ أقدم العصور كتلة واحدة مترابطة الأجزاء، من بحر العرب في عُمان، حتى المحيط الأطلسي في المغرب. ورغم عشقه للشعر العربي يمرح في خمائله اليانعة الندية المزدهرة بين نخيل سمائل «فيحاء عُمان»، وورد وفواكه دمشق «فيحاء الشام»، امتدادًا لسماوات بغداد والقاهرة وتونس وفاس وصنعاء وكلّ عواصم العرب ومدنهم وسائر قراهم ومواضع سكناهم، إلا أنه يقول عن محاولاته الشعرية تلك إنها لا ترقى إلى مستوى الشعر. وأما عن تخصيص باب من أبواب الكتاب العشرة باسمه شخصيًا، فيقول عن ذلك: «لعل بعضهم يرى في ذلك شيئًا من الأنانية – وحتى لو كان الأمر كذلك – فإنّ قصائد الباب معظمها بها إبداع شعري عال، لشعراء كبار يصعب تجاوزه وتجاهله، وإن كان المضمون موجهًا لشخصي وبه إطراء يفوق ما أستحقه، وهو ممّا يدخل في مجال «الإخوانيات»، ولكن مستواه الشعري هو الذي دفعني لوضعه في باب خاص بهذه الصفة، إضافة إلى تشرّفي به وافتخاري بأنه موجهٌ إليّ من رموز لهم مقامهم الرفيع». وعن محاولاته الشعرية يقول: «وقد وضعتُ محاولات متواضعة مني تخيّلتُ أنها يمكن إسكانها على حواف الشعر، وإن لم ترتق بمستواه، وما أنا بشاعر وإن كنتُ من محبّي الشعر».
جاء كتاب «قصائد عمانية – مختارات» حفاظًا على الشعر العُماني من الضياع ثم النسيان؛ فكثيرًا من شعراء عُمان لا توجد لهم دواوين خاصة تجمع قصائدهم؛ فضاع معظم شعرهم، والذي بقي منه «تناثر هنا وهناك، وبلل المطر بعضه، وعدت «الرمة» على كثير منه، إضافة إلى تحريف الناسخين، وضعف حفظ الحافظين، وندين للدفاتر التي اعتاد أصحابها تجميع القصائد بما توفر لنا من تلك الأشعار، قصيدة في هذا الدفتر، ومقطوعة في مثيله، وهذه المجاميع التي لا يكاد بيت من بيوت العلم والأدب في عُمان يخلو منها، حفظت لنا – لحسن الحظ – العديد من القصائد المتفرقة وإن كان ما فات أكثر وأكثر».
وإذا كان الأديب أحمد بن عبد الله الفلاحي قد وثّق مجموعة كبيرة من القصائد الشعرية العُمانية في كتابه هذا، فإنّ الزميلين سليمان المعمري وهدى حمد قد وثقا القصة العمانية القصيرة، في كتاب صدر عن دار «الانتشار العربي» تحت عنوان «أأنا الوحيد الذي أكل التفاحة؟»، إذ قدّما مختارات قصصية لأكثر من ستين كاتبًا عُمانيًا بين من غامَر مبكرًا بالكتابة، وبين من اختمرت تجربتُه بالمِراس، ممّا سهل للقارئ العربي أن يرصد أجيالًا مختلفة من كتّاب القصة في عُمان، بدءا من ثمانينيات القرن الماضي وحتى منتصف العقد الثاني من الألفية الجديدة.
زاهر بن حارث المحروقي