بعد أيام وفي منتصف آذار الحالي تكون سورية قد دخلت عامها الثالث عشر من هذه المأساة التي تعرضنا لها كدولة وشعب، مأساة لم يتعرض لها شعب في التاريخ الحديث، من حيث طبيعة العدوان، مكوناته، المشاركين فيه، والمنخرطين بشكل مباشر أو غير مباشر، وأدوات الداخل والخارج، والمتطرفين المنتحلين لغطاء الدين، إلى مرتزقة الثقافة والإعلام، إلى شهود الزور، والروايات المضللة، وغرف العمليات التي كانت تقود الحرب علينا، ومعها إمبراطوريات الإعلام في العالم، ومئات مليارات الدولارات التي كانت تضخّ كزخات المطر، وصولاً لأكبر عملية كي وعي حصلت لملايين البشر والدول، شاركت فيها جيوش من مشايخ الإخوان، والوهابية، وجيوش أخرى من الكتبة ومرتزقة الصحافة، ونخب ثقافية قابلة للبيع والشراء، وشخصيات عسكرية مدنية، هي حرب القرن إن شئتم أن أسميها قياساً بمساحة سورية، وعدد سكانها، وإمكاناتها المادية المتواضعة، مقارنة بمن كانت تواجههم في الطرف الآخر، وبالطبع فإن الكتابة عن الحرب على سورية وشعبها ليست قضية يمكن حلها بمقال صحفي، ولا زاوية رأي، بل سوف تحتاج إلى كتب كثيرة لتوثق للأجيال القادمة حقيقة ما حدث على هذه الأرض الطيبة، وضد هذا الشعب الأبي الشجاع.
لكن ما تسمح به زاويتي من كلمات، سيساعدني في رصد أسباب التحولات الحاصلة، وأبرز الدروس التي يجب علينا كسوريين أن نتعلمها للمستقبل، ومنها:
1- لا أحد في هذا العالم سيدق باب مهزومٍ أو خاسر أو متردد غير مؤمن بوطنه وشعبه، أو غير مدرك لطبيعة الحرب التي يتعرض لها، فالحرب التي نتعرض لها منذ 12 عاماً ليست حرباً من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات، كما أنها ليست من أجل نصرة الإسلام وقيمه، وكذلك ليست مع الأغلبية ضد الأقليات – كما يسميها المستشرقون – إنها حرب لإزالة سورية التي نعرفها، وتقسيمها وتفتيتها، تارة مذهبياً، وتارة أخرى إثنياً، لأن بقاء سورية وشعبها شديد التنوع والغنى لا يتناسب مع كيان عنصري، فاشي يعتمد نظام الفصل العنصري «الأبارتهايد»، ولمن يريد أن يعرف أكثر ليقرأ مذكرات مؤسسي هذا الكيان الذين كانوا يرون أنه لن يعيش ويستمر إلا باستهداف ثلاث دول عربية مركزية هي سورية، العراق، مصر، أي ثلاثة مراكز حضارية تاريخياً: دمشق، بغداد، القاهرة، التي كانت منطلقاً لإمبراطوريات في التاريخ، وهذا جانب مهم، يرتبط به جانب آخر له علاقة بالهوية العربية، وكثيراً ما نناقش جيل الشباب وغيرهم بأن العروبة انتماء ثقافي حضاري تاريخي جغرافي لا علاقة له بالأنظمة العربية، والدول العربية، وجامعتهم، وهنا كان الاستهداف للهوية جزءاً أساسياً من هذه الحرب، لأن المطلوب أن نكون مذاهب، وطوائف، وإثنيات، وليس عروبيين، ذلك أن المذهب أو الطائفة أو الإثنية تأتي مصادفة التاريخية، والأسرية، أما الهوية واللغة والثقافة والجغرافيا والتاريخ المشترك فهي على امتداد آلاف السنين، ولا تأتي إلا بتراكم وتفاعل تاريخي طويل الأجل.
لقد تاه كثيرون للأسف في جدل عقيم، تارة بالانعزال عن الآخر، وأخرى بالتطرف في الرأي، وكلا الرأيين لم يكن صائباً.
الحرب علينا كانت أسبابها متراكمة منذ زمن طويل، وذات علاقة بموقع سورية الجغرافي من جهة وبموقفها الداعم للمقاومة في المنطقة، وإحباط مشاريع الهيمنة، وتفجر الأمر خلال الاحتلال الأميركي- الغربي للعراق، ووقوف سورية ضده، ورفضها شروط وزير الخارجية الأميركي الأسبق كولن باول الشهيرة، وما تبع ذلك من أحداث نعرفها.
إن الحرب علينا ترتبط بالسيادة الوطنية، والقدرة على اتخاذ القرار، وإعلانه جهاراً نهاراً، والجرأة والشجاعة في مواجهة قوى كبرى ليس بسبب تهورنا، لكن بسبب إدراكنا وحكمتنا من أن تكاليف الاستسلام أعلى بكثير من تكاليف المقاومة والصمود، وهذا ليس قرار الرئيس بشار الأسد، قبله كان قرار يوسف العظمة، وقرار جول جمّال، وقرار عز الدين القسّام، وقرار حافظ الأسد في حرب تشرين، وقرار خالد العظم الملياردير الأحمر بشراء السلاح من الدول الاشتراكية لأن في ذلك مصلحة سورية، إنه قرار السوريين مجتمعين، الذين تحولوا إلى أسطورة عالمية تحتاج إلى شرح وتفسير، وتفسيره يرتبط بتاريخ طويل، وإرث عظيم، فيه مئات الشخصيات الوطنية والمفكرين والأحزاب والقوى الاجتماعية، ولمن يريد أن يفهم من أين استمد الرئيس بشار الأسد صلابته وشجاعته وحكمته، عليه أولاً أن يقرأ تاريخ هذه البلاد، ووزنها التاريخي النوعي ليعرف من أين يستمد القائد هذه الصفات كلها، إنه يمثل كل إرث السوريين، شجاعتهم، وحكمتهم، إضافة للصفات الخاصة بهم.
لابد من حسم تسمية ما تعرضنا له بأنه عدوان فاشي، فالقضية قضية دولة وشعب تعرّض لأقسى حرب في التاريخ الحديث، وهي ليست أزمة كما اعتدنا أن نقول، وليست حرباً أهلية كما يروج الغرب الجماعي بمراكز بحوثه، وصحافته، ليتبرأ من إجرامه، وانخراطه في العدوان، ونحن كسوريين كنا ولا نزال في حرب دفاعية عن وجودنا وبقائنا، وهويتنا، وقيمنا، وإسلامنا، ومسيحيتنا، وتنوعنا، واعتدالنا، ومحبتنا للسلام.
السوريون لم يعتدوا على أحد، ولم يهددوا الأمن القومي لأحد، ولم يمولوا أو يدعموا معارضة سعودية، أو مصرية، أو قطرية، أو تركية أو غيرها، بل كانوا دائماً يفتحون أبوابهم للجميع، وبغضّ النظر عن التحولات التي تحدث، والتي قلت إنها لم تحدث إلا بعد سقوط أوراق، وأدوات العدوان، وانكشافها، لا بل انفضاحها، وعقم الاستمرار بالمقاربات السابقة، ولذلك فإن الدرس الأول والأهم هو أن التخلي عن القيم والمبادئ الأساسية كالسيادة والهوية والتاريخ والانتماء لقضايا شعوب المنطقة، وغيرها، لا يمكن أن يُشبعنا أو يُنجينا كما كان يعتقد بعض السذج، فالمشروع ضد سورية كان مكتوباً، ومنشوراً، ومعلناً، لكن شراسة العدوان، وتنوع أدواته، ومركزية نجاحهم في سورية التي سيبنى عليها مشروع عالمي، جعل الكثيرين يحتارون في أسباب هذا الحقد الغربي على سورية، والتي تبين أنها تشمل كل من يواجه مشروع الهيمنة الأميركي- الأنغلو ساكسوني، من روسيا والصين وإيران… الخ.
2- إن ما أشرت إليه أعلاه لا يلغي أبداً أن نقطة ضعفنا الأساسية كانت قدرة قوى العدوان على اختراق الداخل السوري، وتجنيد جزء من أبناء بلدنا بالمال لتدمير بلدهم، وهذه قضية مركزية وأساسية تقودنا إلى أهمية إيلاء الداخل السوري الاهتمام الأكبر لأنه عندما يكون لدينا داخل قوي تتعزز إمكانيات الصمود المواجهة، وقضية الداخل تطرح تشعبات عديدة وكثيرة، سأكتفي بذكر بعضها:
– إن الديمقراطية هي ثقافة قبل أن تكون ساحة منافسة على المناصب والكراسي والامتيازات، وهي وسيلة وليست غاية، والغاية هي تحقيق مصالح الأغلبية من أبناء الشعب الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والسياسية بشرط أن يكون الالتزام بها وطنياً بحتاً، وليس من أجل أن تكون جسراً لنفاذ الخارج للداخل، وفي كل الأحوال هي مسار يحتاج إلى حماية الدستور والقانون، وتقوية مؤسسات الدولة، وليس إضعافها، كما أنها تحتاج إلى ضوابط كثيرة، لكن الأهم أنها ليست تقليداً للنمط الغربي الليبرالي، إنما ابتكار يأخذ بالاعتبار الظروف المحلية، وطبيعة المجتمع.
– أما المعارضة، فقد ذكرت عشرات المرات في مقالات لي في «الوطن» السورية أنها حالة صحية لأي نظام سياسي أو حزب حاكم، شرط أن تعمل لمصالح وطنية، وتحت سقف الدستور، والقوانين الناظمة، وليست مهنة من لا مهنة له، كما كان الأمر في الحالة السورية التي أفرزت شخصيات انتهازية، ومريضة، وكتلاً من الهياكل الكرتونية التي ترتزق على موائد النفط والغاز، وعندما يتوقف التمويل تختفي وتتلاشى، لأنها ليست حالة شعبية، والأهم من كل ذلك أن المعارضة السياسية هي برامج سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وليست حالة نزق نفسي لدى هذا وذاك، باختصار هناك معارضون وطنيون محترمون ترفع لهم القبعة، وقد نتفق أو نختلف معهم، لكنهم التزموا بثوابتهم الوطنية، ولم يكونوا جسراً لضرب دولتهم وشعبهم، أما موظفو البترو دولار وغيره، فهم ليسوا إلا مرتزقة صغاراً جداً وأصبحوا مكشوفين ومفضوحين.
3- النقطة الأخيرة: إن من حقك أن تحب الرئيس أو لا تحبه، وتحب الحزب الحاكم أو لا تحبه، لكن ليس من حقك تحت يافطة المعارضة أن تفرز لنا كل هذه الكراهية والضغينة، وأن تكون مستعداً لأن تكون حذاءً عند الأميركي والإسرائيلي وغيره باسم المعارضة، ثم تقول إنك ديمقراطي، لكنك تريد استئصال الآخر، أي آخر لا يتفق معك، وبالمقابل فإن موقعك كمدافع عن بلدك، وشعبك في هذه الحرب الفاشية لا يعطيك الحق أبداً بأن تسرق وتنهب تحت يافطة الوطنية، إذ إن كلتا الحالتين تلتقيان مع بعضهما.
في الذكرى الثانثة عشرة للعدوان على بلدنا وشعبنا علينا أن نكتشف نقاط قوتنا، ونعززها، ونقاط ضعفنا لنزيلها، كي يتحول الداخل إلى صخرة صلبة مبنية على الحوار والتوافق والاحترام، فسورية وطن لكل السوريين، والوطنية والانتماء هي بالعمل والإنتاج، وبما نقدمه من فائدة لأبناء شعبنا، وليست للخطابات، والشعارات فقط.
سورية المستقبل لن تكون قوية إلا بتلاحم أبنائها، والجميع تعلم دروساً وخلاصات من أن الوطن هو بيتنا جميعاً، وحمايته واجبنا جميعاً.
د. بسام أبو عبد الله