في ذاكرة المشيخات الكبيرة إلى عام ١٩٧٠ م من لا يغادر التفق كتفه.
بل من لا يتوازن إذا مشى في الظُّلَمِ لصلاة الفجر ما لم يتم نطق بمحزمه “الصمع” وإصبعه على زناد تفقه “الخاشع” رغم نعمة الأمن والأمان.
وعلى النقيض وتحت سقف نفس بيوت تلك المشيخات من اكتفى بقلم على منحر الدشداشة فتسلح بذلَّة الخشوع بين يدي الله في الصلاة وداس على الهواجس الأمنية بقدميه.
وكان الشيخ حارب بن محمد السيابي وهو أحد أفراد البيت السيابي الشامخ من أولاد محسن بين من اختاروا الجهاد بالقلم على السيف.
وتخلَّى لسبْلتي “البيذامة والزعفرانية” عن متاعب الرئاسة وشقاء الساسة وأحابيل السياسة ليتفرغ للقلم والقرطاس والتكليف السامي النبيل.
وبينما انشغل الزعيمان عبدالله بن سعيد وناصر بن سعيد بأمور المسحاب السمائلي وموقعة في الخارطة السياسية اتكأ الشيخ حارب على جذع “لمباة” بسبلة “الشرجة” لينهض بالدور الأهم في البيت السيابي السياسي وذلك بتفقيه نابتة المكان بالدين.
وتنوير الأبصار بلغة القرآن.
وتقويم اعوجاج اللسان.
وتفتيح المدارك على سحر الضاد وجمال العربية.
هأنذا أقف حيث تنتهي “محلة الجعافرة” وتبدأ “حلة أولاد محسن” لأفتش في الشرجة عن تلكم “اللمباة” التي احتطبتها الأيام.
والمدهش أنَّ كل غصن سبق وأن تيبَّس عاد وتذكَّر مسؤوليته في نشر الظل فأزْهرَ من جديد.
وكل ظل بارد في “الشرجة والجعافرة وأولاد محسن” استذكر عمامة الشيخ فتكثّف اللون الأخضر.
هنا عبر هذا المسار تتدافع “الشرجة” من علو نفعاء إلى عطش كل شبر ، متقدمة على هبوط وادي “منصح” ، بل وعن كل الماء العابر للأرض نحو المصاب البعيدة ، فالشرجة أول ما يهبط عقب كل مطر ، وأول ما يسقي.
هنا عاش الشيخ حارب بن محمد السيابي وانعجن بنفعاء السياسية التي عرفت اكثر من غزو بالتعبير العسكري المجازي دونما تقعُّر في المواقف بين التبني والإدانة.
وهنا كان على تماسٍّ بأكثر من حالة اغتيال سياسي بغض النظر عما اذا كانت البلدة ظالمة أم مظلومة.
ومن هنا امتطى الآباء الكبار الصهوات إلى السجن ليدفعوا بعض تكاليف السياسة وعادوا برؤوس مرفوعة تحت ديمة من التكبير.
وهنا ابيضتْ عينا الشيخ حارب السيابي من الحزن وتقرّحتْ كبده على ابنه المظلوم الذي زُفَّ كعريس إلى السجن الرهيب إلى أن لقي وجهربه فارتقى من ضيق الزنزانات إلى رحابة السماء.
ورغم كل ذلك لم يخض الشيخ في وحل السياسة بل احتسب ابنه عند الله ، وفي أبناء نفعاء ما يرمم الفقد ، وفي اتساع رقعة مدرسة “لمباة الشرجة” ما يطفئ الجمر.
وهنا وقف قبلي ابن المكان وذاكرته الأستاذ الزاهر زاهر بن سعود السيابي ليرتقي “أعلى المراتب في ترجمة الشيخ الفقيه الشاعر حارب”.
وهنا تتبَّعَ أستاذنا الزاهر سيرة قامة سيابية فضلت قلم الروغ على تفق الصمع والمداد على البارود والعمامة على الترس.
ولقد خصص الزاهر زاهر كتابا للحديث عن معقل المشيخة وعن نفعاء كلها تحت عنوان “نفعاء قلعة آل المسيب تاريخ وحضارة”.
وبالمقابل اختصَّ الشيخ حارب بن محمد السيابي فأفرد له ولوحده بكتاب “أعلى المراتب في ترجمة الشيخ الفقيه الشاعر حارب”.
وبينما “البيذامة والزعفرانية” تتواصلان مع الشهباء وقصر العلم حول التكليفات السياسية المتمثلة في الاستنفار لنداء المسحاب الفلاني وثورة لفتح الولاية العلانية ، كانت سبلة “الشرجة” القنطرة النبيلة التي تعبرها رسائل الشيخ حارب السيابي إلى الإمام الرضي الخليلي وتتلقى عبرها الردود المعطرة بالرضا من الإمام الرضي.
وتنهض سبلة “الشرجة” بتكليف من حصن نزوى بالإصلاح فيما شجر بين الناس والعمل بما يعود بالنفع على البلاد والعباد.
كما تنفتح سبلة “الشرجة” مع الزعامات الروحية للاستفتاء في القضايا الدينية.
وتتبادل الصداح مع بلابل الفيحاء وبقية مغاني الشعر.
ويثبت الأستاذ الزاهر زاهر السيابي في تتبعة لسيرة الشيخ الشاعر حارب أن الشعر يورث ، فهذا المبارك الشيخ مبارب بن حارب السيابي على نفس خط التراسل الأدبي ، وعلى خط القريض وعلى خطى أبيه.
وقد يفاجأ القارئ بأن كتاب أعلى المراتب لم يشمل جميع قصائد الشيخ الشاعر والسبب في عدم توسُّع استاذنا زاهر السيابي في سيرة الشيخ حارب ومسيرته يعود لفقدان الأسرة لديوان الشيخ حارب ولتبعثر مراسلاته ،
والأهم من ذلك الفقر الذي نعانيه جميعا في ثقافة الأرشفة.
ولدخولنا المتأخر عوالم التعامل مع الكاميرات.
إلى جانب اعتلال صحة أستاذنا الزاهر شفاه الله.
ووفق ترجمة صاحب كتاب أعلى المراتب فإن الشيخ حارب بن محمد السيابي رحل في العقد الأول للنهضة العمانية أي في الرابع من رجب سنة ١٣٩٧ هـ والذي يوافق عام١٩٧٧م. وذلك بعد عامين من أحزان نفعاء على رحيل الزعيم الشيخ عبدالله بن سعيد السيابي في ٢٩ رجبسنة ١٣٩٥ هـ أي في عام ١٩٧٥م أي أن رحيل القامتين كان في زمن الكاميرات ومع ذلك غابت عنا صور الشيخ حارب وسبلته وبيته القديم ليبقى الأثر.
والشيئ بالشيئ يذكر فإن زياراتي لنفعاء والتي توزعت على تفاصيل نصف قرن مذ جئتها لأول مرة كالحلم عام ١٩٧٢ صحبة الوالد فارتكبتُ نفس الخطأ إذ لم تكن الكاميرا للأسف رفيقة المشاوير. ولم نهتدي لقيمة الصورة إلا بعد أن دخل الهاتف النقال حياتنا فبدأنا التصوير وقد فات الكثير والكثير.
أتذكَّر يومها أننا عبرنا ضحى المكان من سبلة “الزعفرانية” حيث نفعاء كانت تتفوَّل “الأمباء” وتلوك السياسة وتحتسي مرارة قهوة الرجال.
ثم انتقلنا مشيا عبر طرق ترابية وبين جدران من بيوت الطين باتجاه سبلة “البيذامة”.
وكان الشيخ الزعيم عبدالله السيابي قد “خُلِعَ عن عرش المشيخة” لكِبَر سنِّه فرأيته واهناً وضعيفا لا يشبه الرجل كما تصورته في الذهن وفي أحاديث سبلات “غيل الدّك” حول تشابكات السياسة والجغرافيا والتاريخ.
ولم تكن حداثة سني تتوقف طويلا عند الشيخ الكفيف حارب بن محمد السيابي لأحفظ ملامحه.
ولكنني أذكر جيدا أننا عبرنا بعد ذلك حصباء وادي “منصح” باتجاه “الخطو” فاحتوتنا خميلة شجر سجدت على بيت الوجيه ناصر البرطماني.
وجئت نفعاء ثانية بصحبة الوالد مع عودة الزعيم الشيخ ناصر بن سعيد السيابي للتهتئة بعودته من رحلة علاج بالولايات المتحدة وقد بدأ الوهن عليه.
يومها مشينا بين طابور طويل من المراجل التي تغلي فنفعاء تفرح بعودة شيخها.
وجئت البلدة لثالث مرة عند منتصف الليل لكي نواري الشيخ عبدالله بن خلفان السيابي الثرى فيرقد في سكون بجوار والدته.
وجئتها مرة أخرى مع سيدي البدر لحضور الفرح بشفاء الشيخ محسن السيابي فكتبت يومها نفعاء بين زيارتين.
وجئتها ذات حزن وهي تبكي نجل المشيخة السيابية إبراهيم بن سعيد.
وآخر عهدي بنفعاء وكانت الزيارة الأجمل إذ تصادف أن نفعاء كانت ترفع الأذان بمسجد “الصَّرَّاني” الذي افتتحه سيدي الهلال بمحاضرة قيمة ما تزال نفعاء تستعيدها.
يومها سألتُ عن أستاذنا الزاهر زاهر بن سعود السيابي فأوجعني خبر اعتلال صحته.
وكان مسك ختام زيارتنا بالمرور على سبلة الشيخ المبارك مبارك السيابي وحديث الهلال عن الشامخ حارب وسيرته المتجذرة في نفعاء.
يومها وقف النخل وشجر الأمباء ليقول لنا أن الأبدان ترحل ولكن السِّيَر لا تموت.
وهأنذا أستعيد سِفْر أستاذنا الزاهر عن شيخ ما زال بيننا فالشِّعْر لا يموت وكذلك المآثر.
حمود بن سالم السيابي
مسقط في ١٥ مارس ٢٠٢٣م.