أتذكرُ عبارة قالها السيد حسن نصر الله في خطابه عام 2000م، وذلك على إثر هروب جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان، مع تزايد عمليات المقاومة ضد الصهاينة؛ حيث قال وبصيغة القسم “والله إنَّ إسرائيل هذه أوهن من بيت العنكبوت”، وكان البعض يظن أنّ نشوة النصر دفعت بأمين عام حزب الله إلى المبالغة في وصف وضع إسرائيل بهكذا وصف، حيث كان وقتذاك يُنظر إلى إسرائيل على أنها الدولة التي لا يُمكن قهر جيشها.
لكن أثبتت الأيام بما لا يدع مجالًا للشك أن إسرائيل فعلًا تشبه بيت العنكبوت في تكونها وحتى في قوتها، فقد حاولت الثأر لنفسها من هزيمتها في جنوب لبنان، وربما كذلك من خطاب سيد المقاومة، الذي وصفها بالضعف والهوان، فحاولت أن تغزو جنوب لبنان من جديد في عام 2006، حتى إنه قِيل إنها جهزت قبل الغزو مراكز للاعتقال في مرج الزهور، لوضع قادة المقاومة في ذلك المعسكر سيئ الصيت والسمعة، والذي سبق وأن سيقت إليه مجموعة من رجال المقاومة الفلسطينية، وكان من ضمنهم الشهيد الدكتور عبدالعزيز الرنتيسي.
لكن نتيجة تلك الحرب والتي أطلقت عليها كونداليزا رايس وزيرة خارجية أمريكا وقتذاك، أنها حرب تقرير مصير المنطقة، أو كانت مخاضًا طبيعيًا لولادة شرق أوسط جديد، أي شرق أوسط بلا حزب الله أو أي من منظمات أخرى للمقاومة، والتي تريد أن ترفع رأسها أمام إسرائيل، ولكن الذي حدث أن تأكدت تلك الحقيقة، أي أن إسرائيل أصبحت أوهن من بيت العنكبوت، وأن إسرائيل هي من يطلب وقف إطلاق النار، وليس حزب الله أو جموع المقاومة في جنوب لبنان، والتي صمدت بقوة أمام جبروت إسرائيل، ومن ورائها أمريكا والغرب وبعض الدول العربية.
فاليوم؛ وبعد مرور أكثر من 22 عامًا على مقولة السيد حسن نصر الله، فإنَّ إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت، وانطلاق المظاهرات العنيفة في إسرائيل من قبل الإسرائيليين أنفسهم.. وليس الفلسطينيين؛ الأمر الذي يُهدد بتفكك إسرائيل ككيان غاصب بقانون القوة لا قانون العدل، ونتيجة لتصادم القوى بين الأحزاب الصهيونية، وهي تمثل خليطاً من قوميات مختلفة وغير متجانسة بالطبع، والظاهر في الأمر أن الاحتجاجات على رغبة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في إصلاح القضاء كما يزعم، أو رغبته في تطويعه لكي لا يلاحقه هو وبن غفير وزير أمنه، وذلك على جرائمهما كأشهر متهمين ينفردان بالسلطة اليوم، وفي مجتمع غاصب مجرم، فلا عجب أن تكون زعاماته الأكثر إجرامًا منه، وقد بلغ الوضع مبلغ الأزمة الكبرى داخل إسرائيل، ولم يسبق لها أن تعرضت لمثل هذه الأزمة، وإن تأجيل نتنياهو لهذا المشروع، جاء متأخرًا جدًا، وقد نضجت الأزمة واستفحلت، وإن الانشقاقات بين الأحزاب تعاظمت، وخاصة بعدما تمت إقالة وزير الدفاع، فقد بلغت مبلغًا خطيرًا لا يمكن تلافيه أو إصلاحه من خلال مؤتمر صحفي.
إذن؛ فإن تآكل بيت العنكبوت من الداخل أصبح تآكلًا حقيقيًا، وما يزيد الطين بلة؛ بل مصيبة كبيرة عليهم، اتفاقية الصلح التي توسطت فيها الصين بين السعودية وإيران، وذلك دون علم إسرائيل وأمريكا، فقد قوّضت هذه الاتفاقية أحلامًا كثيرة، كانت تحلم بها إسرائيل، فهذا التوافق بين هاتين الدولتين الكبيرتين في المنطقة، قد شكل انعكاسًا سلبيًا براجماتيًا على مستقبل إسرائيل؛ لأنه أنهى حلمها بالتمدد في المنطقة، وأصبح متعسرًا عليها عزف أنشودة التطبيع والتعاون مع دول خليجية أخرى، فهي- أي إسرائيل- كانت تنسج أوهامها على تشتيت المنطقة، وإدخالها في حروب وأحلاف تخدم مستقبلها، ولكن الأمور تغيرت؛ بل انقلبت رأسًا على عقب، وأن إسرائيل اليوم الأكثر بُعدًا عن طموحها في التطبيع مع السعودية مثلًا، مستفيدة من مقولة عدو عدو صديقي، وقد يصبح صديق عدوي شريكاً في العداوة ولو ظنيًا، ولكنه يكفي أن يتحول اليقين إلى شك!!
إنَّ إسرائيل أصبحت في حالة نزول وتردٍ وتصدع، إن لم نقل في حالة انهيار، ولو انهيار بطيء، وهذا الحال يشبه حال اقتراب أفول نجم الغرب وأمريكا، وهي لم تكن لتعيش كل هذه السنين لولا الرعاية الخاصة لها من أمريكا والغرب، ولا ننسى دور السلطة الفلسطينية في إطالة أمد بقاء إسرائيل بخدمات التنسيق الأمني، الذي يصب في مصلحة إسرائيل.. وليس العكس، ولكن نتيجة ذلك الحرص على عدم إقلاق الدولة الصهيونية، قد قُمعت الكثير من أنشطة المُقاومة في الداخل وهي في طور التشكل.
وأن أمريكا والغرب الذين كانوا يُعطون جُل اهتمامهم لدولة بني صهيون، قد تشتت بهم الأمور اليوم، فصار مركز الثقل في دعم أوكرانيا، لكي تهزم روسيا نيابة عن الغرب وأمريكا، وحتى أمريكا عندما أرادت أن تنقل شيئًا من المخزون الاستراتيجي للأسلحة في الكيان الصهيوني إلى أوكرانيا، لم تتوفق وذلك نتيجة لتهرب نتنياهو من الموافقة على ذلك، بزعمه أن هذا المخزون قديم، ولا يخدم أوكرانيا مقابل الأسلحة الروسية الحديثة. لقد أصبحت إسرائيل في حرج شديد اليوم، فهي من جهة يعزّ عليها أن تُهزَم أوكرانيا أمام القوة الروسية، وفي نفس الوقت هي لا تستطيع أن تظهر أمام روسيا بأنها تدعم أوكرانيا، حتى لا يفلت العقال الروسي من زمامه، فيقوم بتسليح سوريا والمقاومة بأسلحة هجومية حديثة.
إذن.. كل هذه المآلات أصبحت تزيد من حرج إسرائيل مع ذاتها، وقد اتخذ الإعلام الصهيوني من مقولة السيد حسن نصر الله “إنَّ إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت” عبارة واقعية فيرددونها في تحليلاتهم السياسية باستمرار، وذلك بصيغة التساؤل؟! وصارت الشغل الشاغل لهم، فإذا كانوا يسخرون من هذه المقولة في السابق، فاليوم يرددونها على أنها مسألة واقعة لا محالة، خاصة إذا سارت المظاهرات على نفس المسار – أظنها ستكون كذلك – وقد يكون المآل إلى هذا الاتجاه أمر بديهي، مع اعتقاد الصهاينة اليوم أن الجميع لا يثقون في بعضهم البعض.
وقد دأب الصهاينة في الآونة الأخيرة على طرح نبوءات علمائهم، بأن لا دولة لإسرائيل عمَّرت أكثر من ثمانين عامًا في تاريخهم، وهاهم يقتربون من عقد الثمانين، إضافة إلى مقولة السيد حسن نصرالله.. وهم يُصدّقون كلامه، وهناك مؤشر آخر على زوالهم، حيث ظهر غراب في مقطع فيديو، وهو يمزّق بمنقاره علم الصهاينة، وأن الصهاينة يصدقون مثل هذه النبوءات، وعقيدتهم قائمة على مثل هذا، وقد قال أحد المعلقين إنَّ الغراب سبق وأن علم الإنسان كيف يواري سوءة أخيه، فكيف لا يقوم اليوم بإنذار الصهاينة بأفول نجمهم القائم على القهر والظلم واغتصاب الحقوق، وكما صار الدفن المسار الحتمي للإنسان بعد الوفاة، فلا عجب أن يصير التمزّق مصيراً لدولة الصهاينة.. اللَّهُمَّ اجعل كل ذلك مُتحققًا في أعدائك وأعداء البشرية جمعاء.
حمد بن سالم العلوي