لم تمضِ الليلة دون بضع حشرات تحوم حول العمة جيرالدينا وهي تؤدي أغنية من أغنيات الغجر، وتصدح بصوت مرهق متألم.
بينما كليمانتينا تراقب النجمات المترامية وسط الليل الحالك.
وتنظر إليها من فوق طاولة خشبية.
ارتمت فوقها.
حتى قاطعها صوت عمتها التي توقفت عن الغناء.
قالت العمة: فيما تفكرين؟ رجل جديد؟
كليمانتينا: بل عالم جديد.
ردت العمة: لن تذهبي وتتركي عمتك ترسم الأوشام وحدها.
وصفت كليمانتينا تلك اللحظة والثريا والعشاء ونساء المراوح.
وأن الكونكيستدور الشاب.
قد كان شهمًا.
وسهمًا طاعنًا للآخرين.
لا يشبه رجال الغجر الماكرين.
الناسجين لأساليب الإغواء.
وألاعيب الخفة.
قلبها العطشان العنفوان.
يوده.
قالت لها العمة:
هل لك قلب قرصان؟
أنت غجرية.
عيشتك برية.
الارتحال هو عيشك المستمر.
ستكونين أسيرة وصغيرة.
أمام رجاله وقواته.
وأمام مدافعه وملامحه.
ابقي هنا نرسم الأوشام.
ونخبر الأخبار.
ونكتم الأسرار.
ونقرأ الطالع.
لكل من هو سامع.
لنا يا بُنيتي.
قالت كليمانتينا: لا تقلقي.
لن أكون في شِركه وشباكه.
لن أجعله يقطع رأس غجرية.
لن يفعل.
سأكون يا عمة الماكرة الناكرة لجميله.
سأذهب في سفنه وأمخر بحره.
لكنني سأعود ناجية وراجية لوصالك يا عمة.
قهقهت العمة طويلًا، وكأنها تعرف ابنة أخيها جيدًا.
ستعودين خاسرة.
انسي الآمال والأحلام.
وانسجي الواقع المُر.
إنك غجرية.
حرة كالطيور.
التي تطال النسور.
وتمضي للبرد واليأس.
بكرامة السرب.
بينما معه ستكونين مقيدة.
ومغيبة عن الفرادة والسعادة.
نهضت كليمانتينا من الطاولة الخشبية، حين لبدت الغيوم النجمات الشعشاعة، وصارت لا تريد رؤيتها. وأن الهواء العليل المتسلل إلى فُردتهما بات مزعجًا.
هبطت إلى العشب الرطب، ومضت نحو خيمة مزينة.
دخلتها بخفة.
وتركت العمة بأوشامها وأوهامها.
وباتت تفكر أنه ليس من الصعب.
أن تضع إصبعها في اللهب.
ستقفز كما تقفز الغزلان بعنوة.
أمام الأسود.
وإن زأر مفترسها ورغب.
أن يقترب من الغزالة الحسناء.
فستموت لا محالة.
لكن موتها هذا سيكون موتًا لذيذًا.
موتًا بعيدًا عن روائح الغَبلة.
بل خاتمةً لمناورة.
ومبارزة بين قلبين اثنين.
بعد أن تسلق الليل يومًا آخرًا.
حملت كليمانتينا نفسها من جديد.
إلى السور العالي.
وطلبت من أكتافها أن تحملها قليلًا عن الأرض.
وأنها ستعتلي شجرة البرتقال العملاقة تلك.
التي اعتادت أن تمد أغصانها للآخرين.
ومن فوق الشجرة.
ترأى لها شكل الدنيا الوسيعة.
وهبطت لتعانق الجذع.
وفتحت نافذة عريضة.
إنه مكتب الكونكيستدور.
لا بُد أنه مكان الخرائط.
والأرض والشمس.
لا بُد أنه في ذاك الكرسي.
يراجع ملامح الغجرية المجنونة.
إنها فاتنة.
ومفتونة بخزعبلات الغجر.
وبجنونهم ومجونهم.
لكنه الجنون الفريد.
الشهي، المثير.
المحرك للمشاعر والضمير.
حركت خلخالها.
وفي فمها برتقالة.
وقررت الجلوس على كرسي الكونكيستدور.
بعد أن خطت خطوات قصيرة متأملة المنضدة.
وانتظرت.
حتى يأتي الكونكيستدور.
ويأخذها للمدن والحواضر الضخمة.
حيث أعوام أخرى.
وزمان آخر.
وشموس ونجوم.
وأقمار وأفكار.
تعيشها دون شكوى.
فهل لها الحظوة؟
وفي نشوة عارمة وضعت رجليها على المنضدة الخشبية.
وتأملت نفسها السنية.
والمزهوة.
لكنها الهُوة يا فتاة.
لأن الباب الذي كان موصدًا.
فُتح للكونكيستدور.
فوقفت أمام رجولته ودهشته.
ووقف هو أمام جمالها وروحها الطائشة.
وصارت وسط إعجابه ضائعة.
وقالت له: هل لي أن آكل البرتقالة؟
مُزنة المسافر