◄ الأمن القومي العربي تبدّل تمامًا خلال العشرين سنة الماضية
◄ اضطرابات “العشرية السوداء” نسفت مفهوم الدولة الوطنية المُتماسكة
◄ العرب أمام فرصة تاريخية للإسهام في بناء النظام العالمي الجديد
ظَلَّ مُصطلح الأمن القومي العربي لفترات طويلة يُردد في المحافل العربية والإقليمية، باعتباره إحدى ديباجات الخطابات الرسمية؛ سواء على المستوى الوزاري أو حتى القادة، حتى فُرِّغ المصطلح جزئيًا من محتواه، وخفت صوت جرس إنذار الأمن القومي العربي، لا سيما بعد الغزو الأمريكي للعراق، قبل 20 عامًا، وهي المرحلة التي ربما بدأ ينفرط فيها عقد الأمن العربي تدريجيًا.
وبالعودة إلى الوراء بنحو 3 عقود من ذاك التاريخ، أي تقريبًا في مطلع السبعينيات من القرن الماضي، كان الأمن القومي العربي في أعلى درجات التنسيق والتوافق، وما انتصار 6 أكتوبر 1973 سوى انعكاس حقيقي لمفهوم الأمن القومي العربي، حين اتحدت الدول العربية مع مصر، في معركة المصير مع الاحتلال الإسرائيلي، وانتهت بصياغة مفهوم جديد- آنذاك- للأمن القومي العربي، تمثل في ثلاثة أركان بمثابة ركائز أساسية للأمن العربي؛ أولًا: أن الدول العربية- وبالأخص الخليجية النفطية- قادرة على الضغط على الغرب والولايات المتحدة، من خلال وقف تصدير النفط، الذي يُمثل- حتى الآن- شريانًا رئيسيًا في نموه الاقتصادي. ثانيًا: أن الجيوش العربية مستعدة لحماية ترابها الوطني من خلال المواجهة العسكرية المباشرة. ثالثًا: إرساء العلاقات الاستراتيجية والتعاون الأمني بين الدول العربية فيما بينها من جهة، ومع الغرب من جهة ثانية.
واستمرت هذه الركائز الثلاثة، تحكم مجريات الأمن العربي، رغم بعض الهَنَات هنا أو هناك، لكن الدول العربية بصورة أو أخرى حافظت على تماسكها في وجه التحديات الأمنية والعسكرية، وتجلى ذلك بجلاء في أزمة غزو الكويت، وتحالف الدول العربية لمُواجهة العدوان العراقي، الذي إذا ما تفحصناه جيدًا سنجدُ أنه كان وليد تدخلات خارجية في الأمن القومي العربي، وليس رغبة كاملة من النظام العراقي- وقتذاك- في احتلال أرض عربية أو غزوها كما فُهم.
ولكن في عام 2003، ومع الغزو الأمريكي للعراق، وسقوط النظام الحاكم وتشرذم القوات المسلحة العراقية وانهيارها بالكامل، وظهور التنظيمات المسلحة المُجهزة على مستويات عالية عسكريًا، يمكن القول إن مفهوم الأمن القومي العربي الذي ظل صامدًا طيلة 3 عقود (من 1973 وحتى 2003)، انهار تمامًا، وفُقدت ركائزه الثلاثة التي أشرنا إليها سابقًا، وضاعف من ذلك الانهيار ظهور مصطلح غربي في ظاهره الرحمة وفي باطنه العذاب، وهو “الحرب على الإرهاب”، لأنه في فحواه الحقيقية يُقصد الحرب على العرب والمُسلمين. ونتيجةً لذلك تضخمت خزائن الغرب من مبيعات السلاح والعتاد للدول العربية على حساب التنمية، وتضاعفت فاتورة الديون جراء فشل العديد من الأنظمة العربية في إدارة منظومة اقتصادية ناجحة.
ومع بدء العقد الثاني من الألفية الثالثة، وتحديدًا في عام 2011، اندلعت الاضطرابات العارمة التي عمّت أرجاء الوطن العربي؛ إذ لم تسلم دولة عربية- بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- من المظاهرات الاجتماعية والسياسية أو تداعياتها، والتي تحوّلت في بعض الدول إلى أعمال عنف وحروب أهلية، دمّرت بلدانًا وما زالت تقضي على الأخضر واليابس في بلدان أخرى. ومنذ ذلك العام، والمنطقة العربية مُستباحة من مختلف أجهزة الأمن والاستخبارات، فضلًا عن التدخلات السياسية الفجّة والإملاءات والشروط المُجحفة التي تفرضها مؤسسات التمويل الدولية بزعم تنفيذ خطط إصلاح مالي واقتصادي. ولذلك تبّدل مفهوم الأمن القومي العربي بالكامل؛ إذ وجدت الحكومات العربية نفسها في مواجهة مباشرة مع إرهاب حقيقي، يستهدف زعزعة استقرار الدولة وإسقاطها ومحوها من الخارطة. إرهاب وضع نفسه في حالة حرب مع الجميع، حكومات وأفرادا ومجتمعات، إرهاب قرر إمّا أن يحكم هو تحت زعم “الشريعة” أو أن يحرق أيضًا تحت زعم “الشريعة”، وهذه الشريعة براءٌ منهم براءة الذئب من دم ابن يعقوب. فظهرت التنظيمات الإرهابية أمثال “داعش” ومن على شاكلتها، فحرقوا الأرض ودمّروا التراث، وانتهكوا الأعراض، واستحلوا الحرام.
لكن اليوم، نرى أملًا مُضيئًا، ونورًا ساطعًا، وإشراقة مُتجددة لمفهوم الأمن القومي العربي، ومنبع هذا الأمل التفاهمات العربية العربية من جهة، والعربية الإقليمية من جهة أخرى، ومن يُمن الطالع أن نُدرك أن الدول الفاعلة في مثل هذه التفاهمات هي القوى العظمى التي تُشكّل أركان النظام العالمي الجديد، القائم على التعددية القطبية، وليس الأُحادية. فقبل أسابيع نجحت الصين، بوساطة عُمانية وعراقية، في تحقيق إنجاز تاريخي؛ حيث شهدت بكين توقيع اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية. وقبل يومين وقعت الدولتان- أيضًا في الصين- مجموعة من الاتفاقيات الثنائية تفتح مجالات أوسع للتعاون المُشترك في مجالات عدة.
ولا شك أن عودة العلاقات بين جاريْن هُما من أكبر القوى الإقليمية- بل والعالمية- من شأنه أن يُرسخ المفهوم الجديد للأمن القومي العربي، لكن على مستوى أوسع وأعمق، وهو الأمن القومي الإقليمي، وأمن منطقة الشرق الأوسط؛ فالمملكة العربية السعودية، العضو في مجموعة العشرين، وأكبر مُصدِّر للنفط في العالم، وصاحبة واحد من أعلى الاقتصادات نموًا في العالم. أما إيران، فتعد واحدة من الدول الصناعية، وفي حال رفع العقوبات عنها ستتحول إلى قوة اقتصادية لا يُستهان بها، فضلًا عن نفوذها الإقليمي، وقدرتها على ممارسة السياسة والدبلوماسية باحترافية كبيرة.
وفي مسار موازٍ لعودة العلاقات السعودية الإيرانية، تعود الجمهورية العربية السورية تدريجيًا إلى الحاضنة العربية، بعد العشرية السوداء التي دمّرت سوريا، وشتت أبناءها وتسببت في انهيار اقتصادها، واحتلال أراضيها. الآن تعود سوريا بإرثها التاريخي المُناصر لقضايا العرب، تعود سوريا لبناء علاقات صحية ومُثمرة مع مختلف الدول العربية، ولا شك أن الزيارات الرسمية للمسؤولين العرب على مختلف مستوياتهم، وكذلك المسؤولين السوريين، بما فيهم الرئيس بشار الأسد، تؤكد أن العلاقات العربية العربية تشهد مرحلة من إعادة الترميم وبناء اللُحمة، التي افتقدناها كثيرًا منذ 2011، حتى ظن البعض أن العرب لن تقوم لهم قائمة أخرى.
المشهد الآن يؤكد أن ثمّة صياغة جديدة لمفهوم الأمن القومي العربي، صياغة ترتكز أولًا على مبدأ الحفاظ على الدولة الوطنية، ممثلة في جيشها الوطني ومؤسساتها الرسمية، مع عدم السماح لأي كيانات موازية أو شبه موازية لأن تتحكم في مجريات الأمور أو تؤثر على المصلحة الوطنية لكل دولة. هذا المفهوم الجديد يتأسس كذلك على ضرورة مجابهة المخاطر المشتركة، وعلى رأسها حالة عدم الاستقرار التي عانت منها الدول العربية كافةً، ليكون الهدف المشترك الآن دعم الدول العربية لبعضها البعض، لضمان قيام أو تماسك مؤسسات الدولة وأداء الأدوار المنوطة بها، دون ضغوط غربية سياسية أو اقتصادية. ركيزة ثالثة يعتمد عليها المفهوم الجديد للأمن القومي العربي، تبني نهج الحياد الاستراتيجي في الصراعات الدولية، وعدم الانخراط في أزمة هنا أو حرب هناك، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. أما الركيزة الرابعة التي تُشكل ملامح المفهوم الجديد للأمن القومي العربي، فتتمثل في التعاون مع القوى العالمية، وعلى رأسها الصين وروسيا، في إطار النظام العالمي الجديد مُتعدد الأقطاب، مع الحفاظ على المصالح الاستراتيجية مع مختلف الدول.
وبناءً على ما سبق، وفي ظل حالة الترقب لانعقاد القمة العربية في شهر مايو المقبل بالمملكة العربية السعودية، وتزايد الأنباء حول مشاركة سوريا لأول مرة منذ 2011، فإن بلورة المفهوم الجديد للأمن القومي العربي تقترب من الاكتمال، ولعل من المناسب في هذا السياق، القول إن دولة الاحتلال الإسرائيلي هي الخاسر الأكبر من هذه التطورات الإيجابية، سواءً عودة العلاقات السعودية الإيرانية، أو عودة سوريا إلى الجامعة العربية، خاصة وأن الداخل الإسرائيلي يعيش أسوأ مراحله، مع تصاعد الغضب الشعبي ضد سياسات الحكومة اليمينية المتطرفة، وتزايد التوترات العسكرية سواء مع قطاع غزة أو جنوب لبنان، وهي توترات نتجت عن الاعتداءات الإسرائيلية الخسيسة ضد المُصلين في المسجد الأقصى المبارك، ومحاولات طمس الهوية الدينية لأولى القبلتين وثالث الحرمين.
ويبقى القول.. إنَّ الأمن القومي العربي يمر بمرحلة إيجابية من التطوُّر، مرحلة تعزز الاستقرار في إقليم الشرق الأوسط برمته، وليس المنطقة العربية وحسب، بما يخدم الأهداف الوطنية العليا لكل قُطر من أقطاره، ويحقق التنمية التي تعرضت للكثير من العراقيل، ويخدم جهود إعادة إعمار البلدان التي اكتوت بنيران الحروب الأهلية والصراعات العبثية، وفي الأخير تحقيق الحُلم العربي لأُمّة تتألف من أكثر من 430 مليون إنسان يمثلون نحو 5% من سكان العالم، يتحدثون بلغة واحدة وإن اختلفت اللهجات، يشتركون في الحدود دون قطع أو انفصال، قادرون على إطلاق شرارة نهضة عربية شاملة تأخذ بأسباب العصر وينافسون الاقتصادات المتقدمة، غير أن هذا الحلم متوقفٌ على إرادة سياسية متوافقة بين جميع دول المنطقة… وأملُنا ورجاؤنا أن هذه الإرادة تتشكل الآن.