ما زالت ذكرى حرب العاشر من رمضان، المعروفة بحرب السادس من أكتوبر التي وقعت عام 1973 بين العرب وإسرائيل، عالقة في الذهن، رغم مرور نصف قرن على تلك الحرب، إذ وأنا أعود بذاكرتي إلى ذلك اليوم، أشعر كأني أعيش وقائع تلك الحرب لحظة بلحظة. وما أذكره تمامًا أننا – أبي وأخي صالح وأنا – كنا نذهب لصلاة العشاء والتراويح في مسجد الرحبة في ولاية أدم، وكانت العادة أن ينتظرنا العَمَّان علي وعبد الله بن خلفان ونمشي سويًا إلى المسجد؛ في تلك الليلة وجدنا العم علي بن خلفان في انتظارنا عند الباب وقال لأبي: «قامت الحرب بين العرب وإسرائيل»، فردّ أبي مندهشًا «حاشا عليك؟». قال عمي علي إنه علم بالخبر من إذاعة لندن.. وعقب الصلاة رجعنا إلى البيت ومنذ تلك اللحظة صرنا نتابع الأخبار أولًا بأول، ولم أكن أعي ما يحدث بالتفصيل، لكني أذكر الحادثة تمامًا، وربما كان لها ذلك التأثير فيما بعد عندما صرتُ أهتم بالأمور السياسية. لم تكن الحرب فقط هي التي علقت في ذهني؛ فقد كانت لها تبعات أخرى مثل إلغاء احتفالات العيد، وعدم إطلاق المدفع حسب العادة، مشاركةً من أهل الولاية لإخوانهم الذين يخوضون حربًا كانت في عُرف الجميع «مقدّسة» قبل أن تتغيّر المفاهيم.
في كلّ الأحوال يبقى رمضان ذلك العام مميزًا وعالقًا في الذاكرة، لأنه كان أول رمضان نصومُه في عُمان بعد عودتنا من الغربة؛ فكان كلّ شيء جديدًا بالنسبة لنا، وافتقدنا كثيرًا المأكولات الطيبة والشهية التي اعتدنا عليها في أفريقيا، حيث كانت المائدة تحوي ما لذّ وطاب في الإفطار والعشاء، وكانت كلمة «السحور» تثير فضولنا ونحن صغار، نريد أن نعرف ما هو السحور وممّا يتكون؟ ولماذا لا يُسمح لنا نحن الصغار بتناوله؟ فالذاكرة عندما تعود إلى فترة الازدهار في أفريقيا، فإنها تتذكر تلك الموائد التي كانت تُقام في الشهر المبارك، وكذلك تلك الجلسات التي تسمّى «الرمسة»، حيث يلتقي العرب (العمانيون) في جلسات سمر عقب صلاة التراويح، ويقسمون الأدوار كلّ يوم في بيت يتناولون القهوة وما لذ من الأطايب التي تتفنن ربات البيوت في إعدادها، ولكننا في أدم افتقدنا كلّ ذلك نظرًا لظروف تلك الفترة، إلا أننا اكتشفنا عادات جديدة لم تكن معروفة لدينا مثل «الأذون»، حيث يستعد الأطفال في شهر شعبان لاستقبال رمضان بأن يبنوا مساحة بسيطة خارج البيت، يتناولون فيها الإفطار مرددين عند أذان المغرب أنشودة خاصة تقول «أذون أذون.. كلينا السحون واللبون.. والصايم يفطر. عيشنا والسمن يقطر، شلوا جحال، شلوا سحال، شلوا الصحن وشلوا الزبيب»، وقد تختلف الأنشودة من حارة لأخرى بإضافة بعض الكلمات أو شطب البعض الآخر، وكان الهدف من ذلك إبعاد الأطفال إلى الخارج حتى لا يزاحموا الكبار وقت الفطور. كانت فرحة الأطفال لا توصف، وكانت البيوت متلاصقة والجميعُ يعيشون أسرة واحدة، والحقيقة أنّ إفطار الأطفال في الخارج وفي أماكن تقام لهذا الغرض هي النواة الأولى للإفطار الجماعي والتكافل بين الأسر، حيث تسود عادةُ تبادل الأطعمة بين الجيران قبيل المغرب، وهي عادة منتشرة حتى يومنا هذا في الكثير من البلدان والمناطق. وإذا كان «الأذون» مخصصًا للصغار، فلا يمكن أن أنسى عادة «النوبة»، وهي ما يُعرف في بعض البلدان العربية بـ «المسحراتي»، حيث يخرج البعض ويلف في الحارات، ويضرب طبلا أو صحونًا، مع نداء «يا نايمين الليل قوموا تسحّروا»، ثم يؤذن مؤذن لصلاة السحور، ويصلي الناس جماعة في المسجد ركعتين ثم يعودون إلى بيوتهم للسحور. (ورفعُ الأذان، كان يَعملُ به البعض في السحور وفي الكسوف والخسوف، حتى صدرت فتوى بأنّ الأذان يُرفع للصلوات الخمس فقط، ويُكتفى في الكسوف والخسوف بنداء «الصلاة جامعة»). لقد اختفت الآن عادة «الأذون»، كما اختفت «النوبة» بسبب توسع المجتمع وخروج الأهالي من الحارات القديمة، وبسبب التكنولوجيا الحديثة التي غزت المجتمعات وغيرت الكثير.
هناك ما علق في ذهني عن البدايات الأولى لشهر رمضان، وهو الدعاء الذي يُردّد عقب صلاة الوتر في كلّ رمضان؛ فكان أبي -رحمه الله- يصلي بنا التراويح، ويدعو بالدعاء المأثور عند غالب العُمانيين، وعندما كان يقول: «اللهم اسكنا الجنان وزوّجنا فيها من الحور العين الحسان، وآتنا من كلّ فاكهة زوجان، في دارك دار السلام، بمنّك وفضلك وجودك وكرمك وإحسانك ولطفك يا ذا الجلال والإكرام»، كنتُ أعجب كثيرًا بالدعاء، رغم أني لم أكن أعلم مقصده ومراده، إلا أنّ النغمة التي كان يردّد بها «بمنِّك.. وفضلِك.. وجودِك.. وكرمِك.. وإحسانِك.. ولطفِك.. يا ذا الجلال والإكرام» كانت تشدّني، وعندما كبرتُ كنتُ أقول في نفسي يُفترض أن يقول الإمام «آتنا من كلّ فاكهة زوجين» وليس «زوجان»، كما أني ارتبطتُ كثيرًا بالحور العين الحسان، وما زلتُ أعتقدُ أنّ أفضل نعيم في الجنة هو الحور؛ لذا لا تعجبني الآراء الكثيرة المتعددة حول الحور، التي تحاول تغيير المعنى وتقييد العدد، وأريد أن تكون بمثل ما هي في خيالي شكلًا ومضمونًا وعددًا، وربُّك كريم. وإذا كان شهر رمضان في ولاية أدم ترك بصماته على نفسي، حيث كانت درجة الحرارة تقترب من الخمسين، ولا توجد لدينا كهرباء ولا ماء، وكان الصيام معاناة حقيقية؛ فإنّ هناك شهرًا آخر ترك بصماته في ذاكرتي وهو شهر رمضان عام 1984، الذي صمتُه في تونس مع مجموعة من الزملاء في الإذاعة والتلفزيون، حيث كنّا في دورة تدريبية، فهناك افتقدتُ كثيرًا أهلي، وعندما كنتُ أتصل بهم للسلام، قالت لي أمي -حفظها الله- يومًا «إننا نفتقدك خاصةً أني طبختُ الفطور الذي يعجبك». وهنا أحسستُ بما يحس به المغتربون من الفقد والوحشة وعرفت معاناة الغربة. عندما كبرتُ راودتني فترةً من الوقت بعضُ الأفكار تتلخص في أنّ شهر رمضان هو للأطفال فقط؛ فهم الذين يحسون بلذته، وظللتُ سنوات أفتقد روحانيات هذا الشهر؛ ولكي ألجم نفسي الأمارة بالسوء، تعودتُ أن آخذ إجازتي السنوية في هذا الشهر، وحاولتُ قدر المستطاع أن أبتعدَ عن متابعة الأخبار، فبدأتُ فعلًا أحسّ بمذاق خاص.
وعدمُ الإحساس بروحانية رمضان ربما يعاني منه كثيرون، لأنّ هناك ما يسرق وقت الإنسان، خاصة في هذا الزمان، وهو الهاتف، فما إن يدخل الشهر الفضيل حتى ينتهي بسرعة، ويكتشف المفرطون أنهم أضاعوا الكثير ما كان ينبغي أن يضيع منهم، وأتصورُ فعلا أنّ انشغالنا بالدنيا وبوسائل الاتصال الحديثة أفقد عباداتنا الروح فصارت مجرد طقوس، ففقدنا حلاوة الصيام، وصرنا نستعجل الأذان لنفطر، ونقرأ القرآن بلا تدبر، وهمّنا أن نكثر عدد الختمات، وكم منا من وقف متكاسلا ينتظر انتهاء الإمام من الصلاة؟
وهناك آفة أخرى أبعدت روحانيات الشهر من الناس بعد أن ظهر من يشكّك في كلّ شيء؛ فلم يكتف مثلا بالقول إنّ صلاة التراويح لم يصلها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم جماعة، بل وصل الأمر إلى القول إنها بدعة، فيما شكّك آخرون ببعض الأدعية، وكأنّ الهدف هو ألا يذهب الناس للصلاة، وأن يتوقفوا عن الدعاء إلى الله، فيما ظهر من يمنع الناس من صيام ستة شوال، ليس بهدف التعليم وتبصير الناس بما ثبت عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما بهدف التشكيك، وهي في الواقع مصيبة كبرى لها ما بعدها.
لقد اختفت في العصر الحديث الجلسات الأسرية والعائلية، وقلت الزيارات بين الناس، وكلّ ذلك نتيجة انتشار وسائل التواصل الحديثة، التي قربت البعيد، ولكنها أبعدت القريب، وقد تجد أسرة مجتمعة في مجلس واحد، إلا أنّ كلّ أحد مشغول بهاتفه، وأنا بالتأكيد أحد ضحايا هذا الهاتف، ومع ذلك مهما أغلقناه فإننا لن نخسر شيئا، ولكنه الإدمان في أبشع صوره.
في وقتنا الحالي ربما نعيش في القصور، ونأكل ما لذ وطاب، إلا أننا نفتقد تلك الأيام الجميلة البسيطة التي كان الحب يسود فيها بين الناس. وما زاد من آلام الناس، تلك المآسي التي لحقت بالعرب والمسلمين في كلّ مكان، فتشتت الناس، ومرّت عليهم أيام صعبة في المنافي والمخيمات لا يجدون لقمة عيش ولا شربة ماء، ممّا يعيدني إلى ما بدأتُ به المقال، وهو شعور الأمة العربية كلها شعور واحد، عندما كانت مصر وسوريا تخوضان حربًا مع الكيان الصهيوني، وهو الشعور الذي اختفى من الناس، وأصبحوا لا يهتمون بمصير إخوانهم في العروبة وفي الدين.
وقبل الختام أود أن أشير إلى أخ عزيز هو الشيخ عبدالله بن هلال المحروقي، فقد كان نشيطًا منذ بواكير شبابه. وما جعلني أتذكره الآن، هو أنه كان شاطرًا في دراسة الواقع والسوق؛ ففي ذلك الزمهرير الشديد، اشترى ثلاجة تعمل بـ«الكيروسين»، وقام بتثليج الماء وبيع الثلج للناس. وحتى يومنا هذا ما زال طعم الماء البارد الذي كنا نشربه في ذلك الحر الشديد – بفضل ذلك الثلج – في ذهني كلما شربتُ ماءً باردًا، وقد كانت فكرة جبارة بالفعل لا يعلم قيمتها إلا من عاش تلك الفترة.
زاهر بن حارث المحروقي