يُمثِّل التحدِّي الفكري اليوم أحد أكثر التحدِّيات التي باتت تهدد حياة الأفراد واستقرار وجهود التطوير فيها؛ نظرًا لتأثيرها السلبي على المُكوِّن العقدي والفكري والثوابت والقناعات والمبادئ التي يؤمن بها المواطن، وتنشيط لغة التراكمات والتباينات والمقارنات فيه، ولقد أسهمت منصَّات الواصل الاجتماعي وسلطة التقنية في إدارة معطيات الواقع، وما تبعها من بروز للكثير من المتناقضات في عالم «السوشيال ميديا» وظهور مَن يُسمَّون بالمشاهير في الواجهة، وحالة التقليد والإبهار التي تقدِّمها هذه المنصَّات، أسهمت في زيادة تعلق النشء بها وتأثرهم بموجهاتها، في ظل ما يستخدمه من تنوُّع في الأساليب وتعددية في المنصَّات وحرية مطلقة في الوصول إلى الغايات الشخصية بدون ضوابط وقيود، ليتجه النشء إلى أحضان هذه المنصَّات دون إدراك لمخاطرها أو مستوى تأثيرها، ما نتج عنه تأثيرات فكرية وتشويهات معرفية وتغييب للرأي والرأي الآخر وانتزاع للمحتوى العلمي الرصين، واتساع موضة الشهرة والمحتوى الهابط وارتقاء المتسلقين على أكتاف المعرفة الحقة، الأمر الذي أوجد الكثير من الاختلالات في مشهد الحياة اليومية للمواطن، وهو مشهد بات فيه سلطة القوة تتجه إلى الإعلام الرقمي والمنصَّات التفاعلية في ظل انحسار للإعلام التقليدي والرسمي على حدٍّ سواء.
ومع القناعة بأن منع هذه المنصَّات أو إغلاقها ليس من الحكمة، كما أنه ليس هو الحل في ظل عالم مفتوحة فضاءاته، يتسع للجميع ويملك فيه الكل حق الاختيار وبناء المعرفة واستهلاكها وحتى استثمارها وإعادة إنتاجها، وعندها يصبح هذا التراخي في بناء الخيارات والتوسُّع في البدائل واحتواء المواطن، مساحة للمزيد من التأثير الفكري الذي سينعكس سلبًا على كلِّ مجريات حياة الإنسان بما يضيفه فيها من غوغائية وتشويه لصورة التنمية والتطوير وتضييق المسار الحياتي له ليتجه إلى الأنانية والمصالح الشخصية والشهرة وسرقة الأضواء، في ظل مقارنتها بحياة مشاهير «السوشيال ميديا» الواقعة بين تسليط الأنظار والإعجابات وزيادة أعداد المتابعين، وبين كسب المال والحصول على الثروات نتيجة سيل الإعلانات التجارية والدعاية التي باتت تقدِّم فرصًا خيالية للكثير منهم، ليظهر في الواقع الافتراضي في مركبة فارهة وبيت فاخر وحفلات ولقاءات وتسليط أضواء وإعلانات مليونية وغيرها كثير، الأمر الذي بات يعكس صورة أخرى وإن كانت أقرب إلى الشكلية والظواهر الصوتية، إلا أن المواطن العادي الذي يكافح من أجل لقمة العيش أو المواطن المسرَّح من عمله ويبحث عن وظيفة يسدد بها ديونه والتزاماته البنكية خشية إيداعه في السجن، أو الباحث عن عمل الذي ضيع سنين عمله في تخصصات استثنائية ليندب حظه ليبيع في سوق الفواكه والخضار أو محاسب في أحد المحالِّ التجارية، سيكون تأثر هؤلاء وغيرهم بما يشاهدونه من سباق في المنصَّات الاجتماعية أكثر من أن تضبطه ثوابت ومبادئ أُمَّة أو أفكار تعلمها منذ صغر سِنه في المدرسة والبيت لينجرَّ وراء هذه الموضات والصيحات الإعلانية ملقيًا بكلِّ مما امتلكه من رصيد قِيَمي وأخلاقي وإنساني عرض الحائط، مسدلًا الستار على هذه السنوات ليبدأ مرحلة جديدة مع التقنية والمنصَّات والشهرة والمال.
هذه الصورة التي باتت ماثلة اليوم في واقعنا إن لم تجد من يعيد رسمها وإنتاجها ويصححها أو يوفر ممكنات أخرى قادرة على معالجتها، سوف تلقي بظلالها على حياة المجتمع وقناعاته ومبادئه وهُوِيَّته والتزامه وسلوكه العام، ليتَّجه خلالها إلى الشاشات والأضواء في حلة أخرى وشكلٍ آخر يقوم على التكلف والتصنُّع والخروج عن المألوف، بل وإلقاء ثوب الحياء وبيع الجسد والعياذ بالله، في سبيل الحصول على المتابعين وتحقيق مكاسب الشهرة والخروج من عباءة التكرار، ومع ذلك ندرك أن الحكومات اليوم باتت تواجه الكثير من التحدِّيات في التعاطي مع سرعة هذا التحوُّل وتأثيراته الذي أصبح يهدد منظومة القِيَم والهُوِيَّة والأخلاق، لتنعكس على قراءتهم للتنمية ومفهوم الولاء والانتماء للأوطان. من هنا كانت الحاجة إلى مساحة اتصالية وتواصلية أخرى تتبناها الحكومة وتعمل على تحقيقها في سبيل المحافظة على سقف التوازنات في حياة المواطن وقدرته على تحمُّل مسؤولياته نحو نفسه ومجتمعه ووطنه، وعبر تعزيز الإعلام الوقائي باعتباره الطريق الأمثل الذي يمكن خلاله أن تعمل منظومات الدولة مجتمعة وفق إطار واحد نحو كسب ثقة المواطن والمحافظة على أدواره ومسؤولياته وضبط تصرفاته مع الاستفادة من عالم التقنية في التسويق لقدراته ومهاراته والتثمير فيها في إطار من الوعي والخلق والمهنية والالتزام والمبادئ. إنَّ ما باتت تُشكِّله الظواهر السلبية في المجتمع، وحجم الهدر المالي والنفسي والفكري الذي باتت تُمثِّله على اقتصاد الدولة وثرواتها وعلى حياة المواطن واستقراره، لتفرض الإشاعات والحركات التحريضية والمشوهات الفكرية والسلبية، وانعكاساتها على علاقة الفرد بالدولة والمؤسسات، والمسؤولية الاجتماعية والعلاقات الإنسانية في محيط الأُسرة والمجتمع الوظيفي، لغة جديدة عنوانها المصالح الشخصية والحساسيات المفرطة والممارسات التي باتت تبرز الوجه السلبي المتوحش في حياة البشر والافتقار إلى حياة الضمير وحسِّ المسؤولية واحترام الإرادة وتقدير الآخر، وتبرز مسار الوصاية والفردانية والشهوانية والغريزية، تضع من مسألة وجود الإعلام الوقائي الطريق الأمثل في مواجهة سيل التراكمات، والتعامل مع حجم التباينات في حياة الفرد، وتعميق فقه التأمل والحدس بالتوقعات والحسِّ الأمني في حياة المواطن.
إنَّ الإعلام الوقائي بذلك ليست أداة اتصالية من طرف واحد، بل مساحة التقاء مشتركة تبحر في النَّفْس الإنسانية، وتُعظِّم من قدرها، وترسم لها محطَّات متجدِّدة في واقع الحياة، تستنطق القِيَم والثوابت وتبني عليها مدخلات للتغيير، وتستنهض الروح الإيجابية التفاؤلية في حياة المواطن، ولا تقف عند هذا الحدِّ، بل تتيح له وعبر المؤسسات والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والتربوية والمالية وغيرها خيارات أوسع، وفرصًا مستديمة وإجراءات سلسة، وأساليب ميسّرة، ودعمًا مستمرًّا في سبيل بناء ذاته والتثمير في قدراته، ومنحه فرصًا أكبر في قراءة الواقع والاعتماد على النَّفْس؛ لذلك فهو ليس مجرَّد خطاب إعلامي بحت بقدر ما هو مساحة عملية من العمل المشترك بين المواطن وبرامج التنمية وتوجُّهات الحكومة ومؤسسات الدولة في تعظيم الفرص الإيجابية لدى المواطن وتقريب وجه التنمية المتفائل أمامه، وتوفير الممكنات والدعامات له في التعامل مع أيِّ مطبَّات او تحدِّيات يواجهها، والوقوف معه للوصول إلى مبتغاه الآمن وطريقه الذي يُمثِّل المجتمع، كما يتنزع منه هاجس الخوف والقلق والحيرة من المستقبل أو الفشل في مشروعه الاقتصادي بما يوفره له من بدائل الحل، ومساحات التجريب، وفرص الترغيب والتحفيز، ويفتح له طريق العمل والإنتاج والنشاط والأداء، في توازن مع المعايير، ومحافظة على الثوابت، وتبسيط للإجراءات وتيسير على دفع الرسوم، ليصبح لكلِّ فرد في المجتمع طموحه الذي يمارسه بكلِّ حُريَّة ويتعاطى مع أبجدياته بكلِّ ذوق، وبِدَوْرها تقوم مؤسسات الدولة المغذية لهذا الإعلام الوقائي بتحقيق أعلى معايير الشفافية، والسَّعي الجادِّ والحثيث على إتاحة الفرصة للمواطن للانطلاقة في عالم الأعمال والإنتاج والابتكار بكلِّ سلاسة وأريحية، فإن كثرة التعقيدات وسلاسل التطويل الحاصلة في الإجراءات، وبطء الإنجاز، والشروط التعجيزية والسياسات البنكية الاستفزازية وآليَّة الدعم التي يحمل في طياتها التضييق على المواطن، أحد أهم أسباب الهروب من هذا الواقع، والاتجاه إلى ثقافة الكسب السريع، سواء عبر المنصَّات الاجتماعية وما تحمله من ملامح الخروج عن الضوابط والثوابت أو ما يمارسه الفرد ـ وللأسف الشديد ـ من اختلاسات أو رشوة وتدنِّي مستوى الأمانة والصدق والثقة.
أخيرًا، فإنَّ الإعلام الوقائي بما يحمله في فنونه الإعلامية والخطابية والتواصلية من مساحة تقوم على رصد الواقع وتحقيق مساحة أكبر للشفافية؛ فإنَّه في الوقت نفسه عليه أن يرتبط بالمواطن في مختلف تفاصيله ويجسِّد واقعه ويعبِّر عن صوته ويستلهم معاني الإنجاز منه، وأن يوفر أطرًا ومعالجات جادَّة للكثير من المطبَّات والمنغِّصات والإشكاليات التي يعانيها المواطن فلا يكفي سردها أو تعريف الناس بها أو أخذ آرائهم بشأنها، بل أيضًا يحمل لغة اتصالية جادَّة تبرز حجم التغيير الذي تمتلكه والتأثير الذي تحدثه في واقع الناس، وهو بذلك يحمل الحلول العملية للكثير من الإشكاليات والتحدِّيات التي باتت ترهق كاهل المواطن ولم يجد من خلال قنوات الاتصال المؤسسية مساحة أو فرصة في التعبير عنها مع متَّخذي القرار، ليصبح الإعلام الوقائي محطَّة اتصالية تفاعلية تحمل إجابات واضحة وحلولًا مجرَّبة واستراتيجيات أداء واقعية تضع المواطن في صورة العمل القادم الذي عليه أن يقوم به مع التزام المؤسسات بالدعم والوقوف مع المواطن حتى تحقيق هدفه، هذا الأمر يؤسس أيضًا إلى مرحلة جديدة تصبح الطلَّة الإعلامية فيها للمسؤول الحكومي قائمة على استدراك ما يعانيه المواطن، وتقديم حلول جذرية له تؤمن بها المؤسسات وتوفر لها الحماية القانونية وأطر الدعم والمساندة وتضعها ضِمْن سياسات العمل بها، وليس مجرَّد تكهنات أو حديث عابر يضع المواطن أمام حيرة من الأمر وموقف صادم بين التصديق مع عدمه وبين الواقعية من الخيال، إنَّها الاحترافية والمهنية والأخلاقيات والمسؤوليات التي يصنعها الإعلام ويضعها في أولويات عمله وطريقة إيصال صوته، فهل سنقرأ في قادم الوقت تأسيس بنية واضحة للإعلام الوقائي المسؤول الذي يحمي المواطن ويحافظ عليه من التحدِّيات الفكرية، وفي الوقت نفسه يوفر إجابات وبدائل وحلولًا تيسِّر على المواطن حصوله على حقوقه المشروعة في إطار من الشعور الجمعي معادلة تضع الإعلام الوطني أمام مشهد جديد عليه أن يختبر فيه الإرادة ويحسن فيه الظن بالمواطن.
د.رجب بن علي العويسي