يفرض واقع الأيدي الوافدة في سلطنة عُمان مخاطر كبيرة على المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والمواطنة والهُوِيَّة والقِيَم والعادات والتقاليد والخصوصية الوطنية، ويستدعي البحث عن موجِّهات وتدابير أكثر ابتكارية ومهنية واستدامة على مستوى السياسات والخطط والبرامج في ظلِّ فرضية وجود تأثير سلبي لها على البناء الاجتماعي واستهلاك الموارد الوطنية، لتضعنا المؤشِّرات الإحصائية، الصادرة من المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، أمام قراءة معمَّقة لتفاصيل هذا الملف، حيث تشير الساعة السكَّانية إلى أن إجمالي عدد الوافدين بسلطنة عُمان حتى نهاية الثلث الأول من إبريل من عام 2023 بلغ (42.55%) من مجموع السكَّان، بواقع (2.135.960) وافدًا. ومع أن أعداد الأيدي الوافدة في مجملها شهدت انخفاضًا في السنوات الأخيرة بعد جائحة كورونا (كوفيد19) إلَّا أنَّها اليوم مؤهلة للارتفاع؛ بسبب متغيِّرات سوق العمل الوطني، حيث تُشكِّل ما نسبته (87% – 89%) من العاملين في القِطاع الخاص، مقابل (13% – 11%) عُماني. وهو ما يعني أن واقع الأيدي الوافدة ما زال يُشكِّل رقمًا صعبًا وما زالت تُشكِّل رقمًا صعبًا إذا ما تمَّ مقارنة ذلك بحجم ما تشغله في سوق العمل الوطني، ويرتبط وجودها بمؤشِّرات اجتماعية واقتصادية لها تداعياتها على الهُوِيَّة والبناء الأخلاقي والاجتماعي للمواطن العُماني في ظلِّ ما تشير إليه إحصائيات الجريمة والجناة والباحثين عن عمل والمسرَّحين من العُمانيين من القِطاع الخاص.
فمثلًا، من حيث نسبة تدخُّل الأيدي الوافدة في زيادة معدَّلات الجريمة تشير إحصائيات المركز لعام 2021 إلى أن نسبة الجناة من الوافدين بلغت 51%، يقابله 49% من العُمانيين، وأن 3 جرائم لكُلِّ 1000 من السكَّان هو معدَّل ارتكاب الجريمة في السلطنة خلال عام 2021، وبواقع 4 جناة معدَّل الجناة في سلطنة عُمان لكُلِّ 1000 من السكَّان بإجمالي 12.8121 ألف جريمة تُشكِّل فيها الجرائم الواقعة على الأموال المرتبة الأولى في تصنيف الجرائم، حيث بلغ عدد الجرائم فيها (4.121) جريمة بنسبة (32.2%) وقد بلغ عدد الجناة الوافدين فيها (2,124)، وأن (67%) من الجناة الوافدين ارتكبوا جرائم الواقعة على الأموال مقابل (33%) من العُمانيين. وتشير الإحصائيات إلى أن التوزيع النسبي للجناة الوافدين في تصنيف الجرائم مرتبة بحسب مؤشِّر الارتفاع في عددها كالآتي: الجرائم المخالفة للقوانين 40.3%، ثمَّ الجرائم الواقعة على الأموال (22.7%)، تليها الجرائم الواقعة على الأفراد (11.3%)، ثمَّ جرائم المخدِّرات 6.6%، ثمَّ الجرائم الواقعة على العِرض والأخلاق العامَّة 6.3%، وتشترك معها في النسبة الجرائم الأخرى، وأن أقلَّ الجناة الوافدين في جرائم الأسلحة والذخائر.
وفي مجال التشغيل وبيئات العمل أشارت الإحصائيات إلى أن المشتغلين في القِطاع الحكومي والخاص والعائلي من الوافدين بنهاية عام 2021 بلغ 1,409,473 وافدًا، وبلغ عدد الوافدين المشتغلين في القِطاع الحكومي في عام 2021 (37,996) ليرتفع هذا العدد عن عام 2017، حيث بلغ (36,383)، وفي القِطاع الخاص وحده بلغ عدد الأيدي الوافدة 1.795.689 التي تحوز على ما يقارب من 90% من حضورها في هذا القِطاع، وأن 8 من كُلِّ 10 مشتغلين في السلطنة في عام 2021 هم وافدون، وبحسب المجموعات المهنية فإنَّ 65% من إجمالي شاغلي وظائف مديري الإدارة العامة والأعمال في القِطاع الخاص والعائلي في عام 2021هم وافدون، حيث بلغ عددهم (31,952)، والاختصاصيين في المواضيع العلمية والفنية والإنسانية (53,586)، والفنيين في المواضيع العلمية والفنية والإنسانية (35,908)، والمِهن الهندسية الأساسية والمساعدة (563,129). هذا الأمر يأتي في ظلِّ ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل من العُمانيين ليصل إلى أكثر من (85) ألفَ باحثٍ وباحثة عن عمل، وفي ظلِّ استمرار نهج تسريح العُمانيين من القِطاع الخاص واستبدالهم بالأيدي الوافدة، الأمْرُ الذي يعكس منعطفًا خطيرًا في حجم التأثير الذي يسقطه واقع الأيدي الوافدة على الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، وحجم ما يُمثِّله هذا الملف من ثقل وطني في استهلاك الأيدي العاملة الوافدة للموارد الوطنية، ومنافستها للمواطن في كُلِّ المشروعات الترويحية والاقتصادية الصناعية والزراعية والتجارية والعمل الحُر المتاحة له، وحجم الضغط على الموارد الوطنية والخدمات العامَّة، وانعكاسات ذلك على الهُوِيَّة والقِيَم والأخلاق العُمانية والسلوك الاجتماعي العام.
من هنا فإنَّ استقراء المؤشِّرات السابقة يؤسِّس اليوم لمرحلة جديدة من العمل الوطني تقوم على إعادة تقييم مسار التكامل في البناء الوطني، وتعظيم فرص الاعتماد على النَّفْس، والتقليل من الأيدي الوافدة في ميادين العمل والإنتاج، وخلق فرص أكبر للمواطن العُماني وبخاصة مخرجات التعليم المدرسي والعالي للعمل في القِطاع الخاص، خصوصًا في ظلِّ التشبع الحاصل في القِطاع الحكومي الناتج من إعادة الهيكلة ودمج بعض القِطاعات والمؤسَّسات، ثمَّ إعادة تقييم وجود الأيدي الوافدة في القِطاع الحكومي ذاته ومستوى الحاجة إليها، وإيجاد الحلول العملية المستدامة لإحلال القوى العاملة الوطنية محلَّ الأيدي الوافدة، وأهمية الوقوف على ملفات التشغيل والتوظيف ومسار عمل القِطاع الخاص في ظلِّ المعطيات الوطنية الجديدة المرتبطة بتنفيذ مستهدفات رؤية «عُمان 2040» والصورة التي بات يعكسها تصرف القِطاع الخاص مع الكفاءات الوطنية واتجاهه للتسريح على مستقبل التشغيل، وبالتالي حجم التمكين والثقة الممنوحة للشَّباب العُماني وعمليات التدريب والتأهيل والمهارات وجودة التعليم التي يمكن أن تصحح القناعات، وتبرز الوجْه المُشرق في معادلة تنظيم القوى العاملة الوطنية، بحيث تصنع لها حضورًا مُهمًّا في القِطاع الخاص بعد إعادة تقييم دَور هذا القِطاع، وتبنِّي سياسات أكثر مصداقية في التعامل مع كُلِّ الأسباب والمُبرِّرات غير المقنعة التي تنسج حَوْلَ التسريح، هذا الأمْرُ يأخذ في الاعتبار حوكمة قِطاع العمل ودَور قانون العمل في خلق مساحة أكبر للتنافسية، وبناء القدرات وإنتاج القدوات والنماذج المخلصة في الجهاز الإداري للدولة وقِطاعات العمل الأخرى، التي يمكن على أثرها إعادة النظر في مسار الحوافز والصلاحيات والترقيات والمكافآت بما يضمن ترقية البُعد الإيجابي لدى المواطن في صناعة التغيير وتوفير معالجات جادَّة لهذا الواقع.
ولمَّا كانت ممارسات الأيدي الوافدة في ظلِّ مؤشِّرات الجرائم تُشكِّل تحدِّيًا على الأمن الوطني، خصوصًا مع دخول المواطن نَفْسِه في القضية، ومساهمته في استفحال سلوك هذه الفئة، وعدم الإبلاغ عنها أو التعريف بأماكن وجودها، وحالة التَّستُّر على الأيدي السائبة وغير المرخَّص لها قانونيًّا، ومساعدتها في الهروب من العدالة، أو من ملاحقة الجهات الأمنية والضبطية والقانونية لها، فكان من نتاج ذلك تزايد أعداد الجرائم التي تمارسها هذه الفئة، كالتحايل على القانون، والتسلل غير المشروع، وجرائم القتل العمد، ونشر الخوف والقلق في الأحياء السكنية، وما تتيحه التجمُّعات غير المرخَّصة لها، من بيئة خصبة لإيواء المخالفين لقانون الإقامة من المتسللين أو المنتهية بطاقات عملهم أو تأشيرات إقامتهم، أو الهاربين من مواقع عملهم أو المطلوبين للعدالة، وحالات الاعتداء البدني والتعرُّض للمواطنين، أو الاعتداءات بين بعضهم البعض في المرافق العامَّة، وأسلوب الاستفزاز وعدم الاحترام الذي يمارس ضدَّ المواطن في بعض المواقف؛ والممارسة اللاأخلاقية التي تقوم بها الأيدي العاملة الوافدة كالدعارة وغيرها، ونَشْر العادات الدخيلة التي بدأت تؤثر في السلوك الاجتماعي، والثقافة التواصلية اليومية، وتأثيرها على الأمن الأخلاقي للمواطن، في ظلِّ وجود هذه الفئات في أنشطة منزلية أو قريبة من مساكن المواطنين واندماجهم معهم في أماكن التسوق والترفيه والمجمَّعات التجارية وغيرها.
وهنا يأتي دَور التشريع وإنتاجيته في خلق سياسات أكثر إجرائية لضمان الحدِّ من تصرُّفات الأيدي الوافدة الاستفزازية، تصنع من رؤية «عُمان 2040» في محور «المواطنة والهُوِيَّة والتراث والثقافة الوطنية» مدخلًا مُهمًّا لبناء أُطُر تشريعية وطنية وقواعد لضبط السلوك العام للأيدي الوافدة وتقنينه وضبطه وعبر إيجاد مدوَّنة توجيهية لقواعد السلوك العامَّة للوافدين (مقترح) في سبيل تأصيل الثقافة الوطنية والقِيَم العُمانية، وتعريف هذه الفئة بالواجبات والمسؤوليات والالتزامات، وعبر تبنِّي موجِّهات وأبعاد وقائية وتشخيصية وعلاجية وإثرائية وضبطية، وتأكيد قيمة المراجعات للقوانين واللوائح التنفيذية والتنظيمية ذات العلاقة، وما يتطلبه ذلك من تكامل الجهود وتفاعل أُطُر العمل، وترابط أدوات التنفيذ، خصوصًا في ظلِّ تزايد حجم الممارسة السلبية التي تقوم بها، وانتهاكها لحرمة القانون. بحيث تأخذ عمليات التفعيل والمتابعة لها مسارًا واضحًا يعتمد على كفاءة قواعد البيانات والتناغم بين مختلف القِطاعات، وقراءة معمَّقة للتداعيات الأمنية والثقافية والفكرية والنفسية والاجتماعية للأيدي الوافدة على البناء الاجتماعي والموارد الوطنية، ورصد نوعية المخالفات بصورة أكثر دقة، على أن يتمَّ إيفاد السفارات والقنصليات في الدوَل ذات العلاقة بممارسات مواطنيها لاتِّخاذ إجراءات عملية واضحة تضْمَن مساحة أكبر للردع والتوجيه، بالإضافة إلى إعادة النظر في التشريعات والقوانين النافذة في هذا الجانب، خصوصًا ما يتعلَّق منها بنقل الكفالات أو هروب العامل الوافد وعدم التزامه بشروط العقد المبرم بينه والكفيل، وإعادة حوكمة مكاتب استقدام الأيدي الوافدة في ظلِّ الممارسات التي باتت ترتبط بها وتبرز حجم مشاركتها في هذه السلوكيات، الناتجة عن ضعف أساليب التوعية والتوجيه أو تبصيرها بالحقِّ الوطني العام والخصوصية العُمانية.
أخيرًا، ستظلُّ مخاطر الأيدي الوافدة قائمة إنْ لم يجد هذا الملف المخلصين في الانتقال به من الحلول الجزئية المقتضبة إلى المعالجات المستديمة، في إطار فهم سلوك الممارس الوافد ذاته، خصوصًا في ظلِّ ارتفاع نسبة الجناة الوافدين في مختلف الجرائم المصنفة، الأمْرُ الذي يُسهم في التعمُّق في فهم السلوك العام لهذه الفئة في بلدانها، وما إذا كانت هذه الجرائم تُمثِّل حالة وقتية مكتسبة ناتجة من التغيُّر المكاني أو سلوك أصيل يُعبِّر عن ثقافتها في موطنها الأصلي، وهو ما يتطلب المزيد من التوضيح للصورة الحقيقية الباعثة لهذه الممارسة، والبحث في ثقافة هذه البلدان وقراءة جوانب التحوُّل فيها، والعادات التي تمارسها، والقناعات التي يؤمن بها مواطنوها، والثوابت الأخلاقية والقِيَمية والاقتصادية والاجتماعية التي تضبط حياة مواطنيها، وما يسمح بنقله منها من عدمه بما يتوافق مع الخصوصية الوطنية، والاستفادة من نتائج التقارير الوطنية والدولية وتقارير الشفافية العالمية حول مواضيع الغش التجاري والتزوير والجرائم الأخلاقية والإلكترونية، وما تبرزه هذه التقارير من حجم انتشار هذه الظواهر في هذه البلدان، لتعطي مؤشِّرات واضحة للجهات المختصَّة في سلطنة عُمان باتِّخاذ كافَّة التدابير والاحترازات أو سنِّ التشريعات والقوانين أو إعادة رسم سياسات أكثر فاعلية ونضجًا تقلل من مستوى انتشار هذه الممارسات، بالإضافة إلى تعزيز البرامج الوطنية الإعلامية والتوعوية والتثقيفية للتعريف بالثقافة العُمانية ومبادئها في تلك البلدان، والتي يمكن أن تتولاها سفارات سلطنة عُمان في هذه الدوَل، وتعميمها على شركات السفر السياحة ومكاتب استقدام الأيدي العاملة.
د.رجب بن علي العويسي