“لا بُد من صنعاء ولو طال السفر”.. عبارة نُرددها كثيرًا للإشارة إلى العاصمة اليمنية، لبُعدها عن الحواضر العربية الأخرى كبغداد ومسقط ودمشق، وذلك من حيث مشقة السفر إليها، فقد كان أول من نطق بها هو الإمام أحمد بن حنبل الذهلي، في القرن التاسع الميلادي، إذ كان يرغب بالسفر إلى صنعاء لمقابلة أحد علمائها المعروفين فهو العلّامة عبدالرزاق الصنعاني.
“اليمن السعيد” وعاصمته التاريخية لم تعُد عصية على الأشقاء وجيران الجنب الذين يحملون رايات السلام والمحبة لأبناء اليمن قاطبة شمالًا وجنوبًا بعد سنوات عجاف من الحروب المدمرة التي أكلت الأخضر واليابس في هذا البلد العظيم بتاريخه وشعبه العريق. فقد استقبلت صنعاء بالأمس وبحفاوة بالغة وانفتاح ملحوظ؛ الوفدين العماني والسعودي اللذين قَدِما إلى حركة أنصار الله (الحوثي) للتحاور حول العديد من الملفات المهمة التي تتعلق بالدرجة الأولى بتحقيق السلام العادل بين جميع الفرقاء في هذا البلد الشقيق.
لعلَّ الملف الأول والأهم هو الاتفاق على هدنة لمدة 6 أشهر، على أن يتزامن ذلك مع فتح المنافذ والمرافق كالموانئ والمطارات للاحتياجات المدنية الضرورية للمدنيين في جميع أرجاء الجمهورية، كما أنَّ من المتوقع أن تكون من ثمار محادثات صنعاء، إطلاق أكثر من 800 أسير من الطرفين المتحاربين؛ وهما الحكومة الشريعية -ممثلة في المجلس الرئاسي الذي أخذ موافقته المسبقة على هذه المساعي الخيرة والسلمية- وكذلك حركة أنصار الله (الحوثي) التي تحكم سيطرتها بالأمر الواقع على صنعاء منذ 2013، وكذلك العديد من المحافظات الشمالية؛ مثل: صعدة والبيضاء والحُديدة. ثم تعقب الهدنة المقترحة فترة تفاوض لمدة 3 أشهر حول إدارة المرحلة الانتقالية المقبلة، والتي من المفترض أن تمتد لعامين يتم من خلالها الحل النهائي، وذلك في إطار قرارات الأمم المتحدة والمبادرة الخليجية كمرجعيتين أساسيتين لمستقبل اليمن.
كما تتضمن الاتفاقية صرف الرواتب لجميع الموظفين العاملين في القطاع المدني في مختلف أرجاء البلد، فضلًا عن مناقشة خطة تعمير ما تمَّ تدميره خلال سنوات الحرب التي استمرت أكثر من سبع سنوات.
إنَّ الأخبار التي تتسرب من صنعاء عن المحادثات التي تقودها سلطنة عُمان وشقيقتها السعودية بحضور محمد آل جابر سفير خادم الحرمين الشريفين في اليمن، حول انسحاب الوفد السعودي ومغادرته العاصمة صنعاء، لم تكن دقيقة أو صادقة. فقد سبقت هذه المحادثات، تفاهمات بين وفد سعودي وآخر يمني يمثل الحوثيين برعاية عمانية في مسقط ولمدة أكثر من ستين يومًا، لكي تجري مناقشة بنود الاتفاقية المقترحة والتي كانت ترغب بمناقشتها تلك الوفود والوصول إلى قناعات وأرضية مشتركة ترضي الجميع.
صحيح ربما كان هناك اختلاف في وجهات النظر في بداية الاجتماع، تتعلق برغبة مهدي المشاط رئيس المجلس السياسي الأعلى لحركة أنصار الله اعتبار المملكة العربية السعودية طرفًا أولًا في توقيع مسودة الاتفاقية وليست وسيطًا، لكن يبدو أن تدخُّل وفد السلطنة لتقريب وجهات النظر حول هذا الخلاف، قد نجح في تذليل الصعاب وتقديم الحلول التي أدت إلى الانفراج.
لا شك أنَّ هناك تفاؤلًا واسع النطاق حول نهاية قريبة للحرب والانتقال إلى التنمية الشاملة لتعويض أبناء اليمن عن سنوات صعبة من التشرد والمجاعة والحرمان والانقطاع المستمر عن التعليم في معظم محافظات البلاد الذي اعتاد على الصراعات السياسية والمذهبية والقبلية طوال العقود الماضية.
ولعلَّ التقارب السعودي الإيراني الذي نجحت جمهورية الصين الشعبية في طي صفحة الخلاف بينهما والاتفاق على إعادة فتح سفارتي البلدين في كل من الرياض وطهران قد انعكس إيجابًا على إحراز تقدم في مجال القضية اليمنية؛ بهدف تحقيق السلام الشامل بين الأطراف المتصارعة قاطبة، انطلاقا من القاعدة التي تقول: “لا ضرر ولا ضرار”.
يجب أن يُدرك الجميع أنه لا يمكن الخروج باليمن من محنته دون قيام دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، والمنظمات الإنسانية التابعة للأمم المتحدة بتقديم المساعدات السخية لهذا الشعب المنكوب الذي عانى الأمرين من الأمية والتحزب والمذهبية المقيتة، منذ سنوات طويلة حتى قبل الحرب الحالية. اليمن هو الجوار الإستراتيجي للخليج؛ فلا يُمكن تخيل سلام وأمان لشعوب المنطقة دون تحقيق الاستقرار المتمثل في بناء مشاريع كالمدارس والجامعات والطرق والمستشفيات ومحطات توليد الكهرباء، وقبل ذلك كله توفير فرص عمل واعدة للشباب في هذا البلد الجار؛ وذلك لإعادة البسمة للمحرومين والناجين من جحيم المعارك؛ فالشعب اليمني أولى من غيره بخيرات المنطقة؛ ومساعدته على تنمية واستخراج موارد بلاده الطبيعية بدلا من ذهابها للأجانب وبعض القيادات المحلية التي اعتادت على نهب المساعدات التي تأتي من الخارج، ويحرم منها فقراء اليمن.
يبدو لي أن أجراس السلام قد دقَّت ساعتها، ولا أحد في هذا البلد يُريد استمرارية هذه الحرب؛ فسياسة إقصاء الآخرين وتهميشهم قد تجاوزها الزمن وطوتها الأيام بلا رجعة. وعليه، ندعو من هذا المنبر أهل الحل والعقد في اليمن للجلوس إلى طاولة مُستديرة؛ وذلك للشروع في حوار جاد ومناقشة صادقة لتحقيق مستقبل مشرق لجميع أفراد الشعب بلا استثناء؛ فاليمن بحاجة لكل أبنائه المخلصين لطي الخلاف، وتصحيح المسار، وبناء شراكة وطنية، ولم الشمل، ومداواة جراح الماضي، والعبور بهذا البلد إلى المستقبل الواعد الذي يسوده العدل والديمقراطية والمساواة بين الجميع.
د. محمد بن عوض المشيخي – أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري